وباء کورونا دافع للتغيير الاجتماعي

نوع المستند : أبحاث علمیة

المستخلص

بعد ما يقرب من أحد عشر شهراً على الاعتراف بظهور وباء کورونا، وما أحدث من آثار سلبية کارثية، إذ بلغ عدد المصابين بالفيروس ما يزيد عن 65 مليون شخصاً، وبلغ عدد الموتى ما يزيد عن مليون ونصف شخصاً، وذلک على مستوى العالم کله، أما في مصر فقد ذکرت التقارير الرسمية يوم 5 ديسمبر 2020، أن إجمالي العدد الذي تم تسجيله في مصر هو 117.583 حالة، وتم شفاء 103.191 حالة، وتوفيت 6732 حالة، وهذا الرقم لا يضم الذين عزلوا في بيوتهم أو عُزلوا في المستشفيات الخاصة..!!
بعد ظهور واکتشاف هذا الفيروس غير المرئي بما يقرب من عام انعقد بمدينة الرياض في يومي 20 و 21 نوفمبر مؤتمر ضم عشرين دولة (G20). وهي الدول الأکثر ثراءً والأقوى اقتصادياً في العالم. ويعد هذا المؤتمر أهم منتدى اقتصادي دولي. ويتحکم هذا المنتدى العالمي في 85% من حجم الاقتصاد العالمي، و 75% من حجم التجارة العالمية.

نقاط رئيسية

وباء کورونا دافع للتغيير الاجتماعي

الكلمات الرئيسية


وباء کورونا دافع للتغيير الاجتماعي

أ.د./ محمد سعيد فرح

 

 

بعد ما يقرب من أحد عشر شهراً على الاعتراف بظهور وباء کورونا، وما أحدث من آثار سلبية کارثية، إذ بلغ عدد المصابين بالفيروس ما يزيد عن 65 مليون شخصاً، وبلغ عدد الموتى ما يزيد عن مليون ونصف شخصاً، وذلک على مستوى العالم کله، أما في مصر فقد ذکرت التقارير الرسمية يوم 5 ديسمبر 2020، أن إجمالي العدد الذي تم تسجيله في مصر هو 117.583 حالة، وتم شفاء 103.191 حالة، وتوفيت 6732 حالة، وهذا الرقم لا يضم الذين عزلوا في بيوتهم أو عُزلوا في المستشفيات الخاصة..!!

بعد ظهور واکتشاف هذا الفيروس غير المرئي بما يقرب من عام انعقد بمدينة الرياض في يومي 20 و 21 نوفمبر مؤتمر ضم عشرين دولة (G20). وهي الدول الأکثر ثراءً والأقوى اقتصادياً في العالم. ويعد هذا المؤتمر أهم منتدى اقتصادي دولي. ويتحکم هذا المنتدى العالمي في 85% من حجم الاقتصاد العالمي، و 75% من حجم التجارة العالمية. وقد تمحورت محاور المؤتمر حول ثلاث نقاط وهم:

1 – وباء کورونا؛

2 – المتغيرات المناخية؛

3 – الاقتصاد العالمي.

ولقد تضمن البيان الختامي للمؤتمر([1]) 28 بنداً، ويقع في 15 صفحة باللغة العربية، ويرتکز على محورين أساسيين:

المحور الأول أهمية مواجهة التحديات سوياً، والمحور الآخر بناء التعافي المتين طويل الأمد.

  • ولقد اعترف المنتدى بأن 30% من الغذاء على مستوى العالم يتم هدره..!! وتبحث المجموعة عن أفضل السبل لخفض مستويات الهدر.
  • أيضاً أکد المنتدى على التنمية المستدامة والمتوازنة والشاملة في حقبة ما بعد کورونا.
  • أيضاً طالب المنتدى بحشد الموارد المالية اللازمة لتلبية الاحتياجات الصحية ولدعم الأبحاث والتطوير والتصنيع والتوزيع لأدوات التشخيص والعلاجات واللقاحات الآمنة لفيروس کورونا.
  • أيضاً طالب المنتدى تطبيق إجراءات غير مسبوقة تتعلق بالموارد المالية، واتخاذ خطوات لدعم التعافي وتحقيق نمو قوي ومستدام ومتوازن.
  • أيضاً أکد المؤتمر على الاهتمام بمدفوعات خدمة الدين العام.
  • وأقر المؤتمر في البند العاشر المتعلق بالصحة، الالتزام بتعزيز إجراءات التأهب لمواجهة الحوائج والکوارث.
  • وقد اعترف المنتدى بوجود ثغرات واجهت إجراءات التأهب لمواجهة فيروس کورونا.
  • کما أعطى المنتدى اهتماماً بالتجارة والاستثمار، ودعم النظام التجاري، أيضاً أعطى المنتدى اهتماماً لحرکة النقل والسفر (البند الثالث عشر). مثلما أعطى أهمية للهيکل المالي العالمي والاستثمار في البنية التحتية وقضايا القطاع المالي، ومکافحة غسيل الأموال ومکافحة الإرهاب، والاقتصاد الرقمي، ولم يغفل المنتدى نظام الضرائب على المستوى الدولي، ومکافحة الفساد والرشوة.
  • ونالت قضية التنمية المستدامة اهتمام المنتدى، فقد رأى المنتدى أن التبعات والآثار الاجتماعية والاقتصادية للجائحة تزيد من ضرورة تسريع القضاء على الفقر ومعالجة عدم المساواة والعمل على ضمان تحقيق مبدأ المساواة وتکافؤ الفرص (البند 22).
  • أيضاً أعطى المنتدى اهتماماً بمسألة سوق العمل، وأهمية إتاحة فرص العمل، والقضاء على البطالة، وتمکين النساء والشباب من الحصول على الحماية الاجتماعية.
  • ونالت قضايا السياحة والهجرة قدراً من اهتمام المنتدى، والأمر اللافت للانتباه أن قضايا المال ومشکلات الإنتاج، احتلتا من قادة العالم الاهتمام الأکبر، ولکن ما يستدعي منا وقفة وتسليط الضوء الأحمر ما جاء في السطرين الأخيرين من البند رقم 26، فقد أقر المنتدى " بإدراکه قيمة تعزيز عولمة التعليم في ظل احترام القوانين والقواعد والسياسات الوطنية والدولية".

ولما کنا نؤمن بالخصوصية الثقافية فإننا نطرح سؤالاً مجدداً: ما الهدف من دروس التاريخ ومقررات الأدب وحصص المطالعة ؟

وکانت ردود الفعل قوية لقرارات المنتدى، فقد أعلن أمين منظمة الأمم المتحدة صيحة مدوية مطالباً بتلبية احتياجات الدول النامية([2])، والفقيرة من أجل التعافي من جائحة کورونا، کما حذر المدير التنفيذي لبرنامج الأغذية الدولية من أن عام 2021 سيکون کارثة، فالمجاعة تدق أبواب أکثر من عشر دول.

وکانت أهم النتائج التي توصل إليها المؤتمر الآتي:

تمويل خطة لإنتاج لقاحات لمواجهة الوباء، رصد لها 4.5 مليار دولار، بالإضافة إلى 8 مليار دولار رصدت لإنتاج اللقاح من قبل. وقد تعهد قادة الدول ببذل کل الجهود لضمان وصول اللقاحات بتکلفة ميسرة وبطريقة عادلة.

کما رصد 11 تريليون دولار لإنعاش الاقتصاد العالمي لمواجهة کورونا، ومواجهة آثارها الاقتصادية والاجتماعية، وتوفير ملايين فرص عمل للعاطلين وکشف المؤتمر أن المصلحة الاقتصادية بين دول المنتدى. والرغبة الملحة في إنعاش الاقتصاد العالمي هما الهدفان الأوليان.

أيضاً کانت مشکلات الإنتاج، وتخفيض الديون عن کاهل الدولة الفقيرة، وتعليق مدفوعات خدمة الدين حتى يونيو 2021، موضوعات  والتي سيستفيد منها أکثر من مليار إنسان في الدولة المدينة، موضوعات لها الأولوية.

وقد تضمن البيان الختامي للمنتدى وضع خطة لمعالجة الآثار الاقتصادية لکارثة کورونا، بهدف النهوض باقتصاديات العالم، وتوفير الضمانات للمستثمرين العالميين، ومواجهة الآثار السلبية للبطالة، ووضع آليات تضمن استمرار الأنشطة التجارية " والعمل على إعادة اقتصاديات الدول إلى مساره الطبيعي وتحقيق النمو ". فالقرارات کلها اهتمت بالجانب الاقتصادي، وأغفلت حق الإنسان في الحياة.

ولقد اعترف المؤتمر بأن کورونا أوجدت آثاراً سيئة عديدة في مجال الاقتصاد، إذ انخفض الإنتاج، وزادت البطالة، وارتفعت معدلات الفقر، وحدث کساد في مجال السياحة، وتباطؤ في نمو الاقتصاد العالمي، بل وحدثت خسائر متزايدة في الاقتصاد العالمي. أما ما لم يذکره المنتدى فإن آثاراً سلبية حدثت في محيط العلاقات الأسرية، وأن معدلات الطلاق قد ارتفعت، وأن أطفالاً کثيرين أصيبوا بالاضطرابات النفسية، أيضاً تعذر وصول وسائل تنظيم الأسرة من مراکز الإنتاج إلى المراکز الصحية، مما ترتب عليه فشل برامج تنظيم الأسرة في بعض البلدان.

أيضاً تأثر نظام التعليم بعد إغلاق المدارس، وطبق نظام التعليم عند بُعد، أيضاً تأثر النشاط الثقافي والنشاط الفني بسبب الإجراءات الاحترازية، وألغيت معارض الکتب في کثير من الدول، أيضاً أوقفت المحاکم جلساتها، مما أدى إلى التباطؤ في تطبيق العدالة، أيضاً تأثرت المراکز السياسية لبعض الحکام سلبياً، وانهزم بعضهم في ظل مناخ ديمقراطي لتقاعسهم عن مواجهة وباء کورونا.

أيضاً کشف انتشار الوباء ضعف مستوى الخدمات الصحية، وقلة ما ينفق في مجال الرعاية الصحية. وقد تزايدت الإصابات في کل دول العالم، حتى في أغنى دول العالم. لقد أصاب الفيروس الکبير والصغير، والوزير والخفير، والطبيب والمريض، لعدم وجود لقاح مثمر يمنع الإصابة بالفيروس، وکشف الانتشار السريع للفيروس أن حقوق الإنسان وأهمها حقه في الرعاية الصحية مجرد شعار.

وإذا کان الهدف من العلوم الاجتماعية وإلقاء الضوء على ما يحدث في الحياة اليومية، وأن تعبر بصدق عن مشکلات الجماهير وتتعاطف معهم، فإن قرارات المنتدى العالمي جاءت مخيبة لآمال النشطاء المحبين للإنسان، فإصلاح المجتمع الإنساني لن يتأتى بالإصلاح الاقتصادي وحده، فليس بالاقتصاد وحده يحيا الإنسان.

والسؤال ماذا بعد کورونا ؟ إذ أن بقاء الوضع کما هو عليه بلغة المدرسة البنائية الوظيفية سيؤدي إلى احتراق العالم – کما قال وزير الخارجية الأمريکي الأسبق هنري کيسنجر. فالهدف الأول والأکبر أن نسعى إلى تأسيس مجتمع إنساني أکثر عدالة يهتم بحقوق الإنسان، ويحيا فيه الجميع حياة آمنة راضية مطمئنة، وبخاصة الأطفال في الدول الفقيرة والنامية، ونبعد عنهم شبح الجوع وسوء التغذية. ونقطة البداية في بناء المجتمع الجديد هي إصلاح التعليم، وبناء مواطن قادر على التفکير العلمي المنطقي، والفاهم للدين فهماً صحيحاً، ويعرف بأنه لا تعارض بين الدين والعلم " وأن الدين روح المجتمع". وعلينا أن ننشئ الصغير کيف أن يُحکَّم العقل الصافي والضمير اليقظ في أمور الحياة وأن يمارس الديمقراطية ابتداء من محيط الأسرة، ثم المدرسة ثم الجامعة ثم في مجال العمل ثم المجال السياسي، وننشئ إنساناً لايعرف التنمر ولا الاغتصاب ولا الخوف، ولا الکراهية، ولا التعصب بکل أشکاله، ويؤمن بتکافؤ الفرص للجميع – وأن الوطن فوق الجميع.

والسؤال ماذا بعد وباء کورونـــا ؟!!

لقد طُرحت بعد تفشي أزمة کورونا مجموعة من المطالب والأمنيات لشکل المجتمع الجديد، مجتمع ما بعد کورونا، وأهمها :

1 – تعديل النظام العالمي الجديد؛2-توفير الحد المعقول من الدخل المنتظم للأفراد؛ 3– الاهتمام بدولة الرفاهية، بدلاً من دولة المکسب والمال والربح، من أجل تحسين ظروف الحياة؛ 4– الاهتمام بتوفير الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية؛ 5– الاهتمام بالعلم؛ 6– سن تشريعات توفر نظاماً للضمان الاجتماعي والتأمينات الاجتماعية يطبق على کل المواطنين؛ 7- توفير المسکن الملائم؛ 8– تشييد مجتمع جديد يختفي فيه الفقر والظلم الاجتماعي؛ 9– بناء مجتمع جديد لا مکان فيه للمثاليات والأيديولوجيات؛

10 – خفض الميزانيات التي تنفق على التسليح؛ 11-السعي إلى بناء عالم يسوده السلام بدلاً من الصورة الدموية السلبية للعالم الآني، الذي تسوده الحروب الأهلية والاضطرابات العنصرية، والحد من انتشار المجاعات والهجرة غير الشرعية، والإرهاب. 12-السعي لمعرفة مصدر الوباء، ومعرفة أين نشأ، وتوفير أساليب العلاج، وتدبير اللقاحات اللازمة لکل المواطنين.

وإذا ما طرحنا السؤال التالي: هل من السهل تخيل عالم ما بعد أزمة کورونا؟ الجواب بالطبع لا، فالحقوق الأساسية للمواطنين تحددها وترسمها مصالح ومنافع الذين يمسکون بزمام السلطتين، السلطة السياسية، والسلطة الاقتصادية. ومع ذلک نطرح هذا السؤال : هل تدفعنا الأزمات إلى عتبة مجتمع جديد، أي ولادة مجتمع جديد؟ وکم من الوقت تستغرق عملية الميلاد ؟ وما التکاليف التي سيدفعها المواطن في الدول ذات الدخول المرتفعة أو المتوسطة أو المنخفضة من أجل بناء المجتمع الجديد ؟ وما شکل المجتمع الأمريکي، هل ستعيد أمريکا بناء مجتمع ماکدونالد، والکوکاکولا أم سيبني الأمريکان مجتمعاً جديداً ؟ هل سيسيطر اقتصاد السوق الحر أم يعاد إلى الوجود فکر کينز وضرورة تدخل الدولة أم يظهر مجتمع جديد ثالث له نظام اقتصادي مختلف، يختلف عن مجتمع السوق الحر، ومجتمع يتبع نظام تدخل الدولة، أم سيظهر مجتمع مغاير.

وإذا کانت المجتمعات الأوروبية وحتى المجتمع الأمريکي وغيرها من البلدان، تفکر في نوع مجتمع ما بعد أزمة کورونا، فنحن نسأل، هل مجتمعات العالم الثالث على استعداد لعالم ما بعد کورونا ؟ وهل العالم الثالث قادر على المساهمة في بناء العالم الجديد ؟ وهل استفاق العالم الثالث من أزمة کورونا وصحا من غفوته ؟ وهل أخذ مبادرة المساهمة في بناء مجتمع جديد، أم سيظل هذا العالم الثالث تابعاً للغرب ؟

مجتمع ما بعد کورونـــا:

في البداية دعنا نقف أمام ما کتبه الشاعر فاروق جويدة، وهو ليس برجل سياسة، ولکنه إنسان مرهف الحس قبل أن يکون شاعراً. کتب الأستاذ فاروق جويدة تحت عنوان " ماذا سيقول التاريخ" : "قد يبدو السؤال الآن، ماذا سيقول التاريخ عن مأساة کورونا التي أطاحت بالعالم وترکت ملايين المصابين ومئات الألوف من الضحايا ... إن عالم ما بعد کورونا سيکون شيئاً مختلفاً عن کل ما کان قبلها، وسوف تترک آثاراً على کل شئ. سوف تختلف الآراء أمام حجم الخسائر، وسوف تغير کورونا تماماً قوانين اللعبة السياسية، وهناک دول ستنسحب من المقدمة، وهناک دول أخرى سوف تأخذ مکانها في المقدمة، وسوف تتغير حکومات وأنظمة وسياسات لأن العالم لم يکن على مستوى المواجهة وهو يواجه هذا الفيروس الضعيف، وسوف تختفي وجوه کثيرة وتصعد وجوه أخرى، سوف يختفي سباق التسليح في العالم، ويظهر سباق العلم الذي يحقق للإنسان ما يستحق من الرعاية والکرامة، سوف تتراجع سيطرة المال وتحل مکانها ولو بالتدريج أصوات الضمير تلک التي أسقطها العالم من حساباته، والبعض يرى أن الأديان قادمة بعد أن تهمشت زمناً طويلاً ... وهل ستزداد الرحمة والإيمان، أم ستزداد القسوة والجحود.

إن بقاء ملايين البشر محبوسين بقرار إلهي لم تستطع قوة في العالم أن ترفضه أو تعترض عليه، بينما هناک فيروس يسمى کورونا اخترق کل الحدود وأصاب ملايين البشر. وکل مراکز العلم والأبحاث في العالم تتساءل من أين جاء وما آخر الکوارث التي يحملها ؟ إنها أشياء کثيرة ينتظرها العالم في زمن قادم تحمله أشباح کورونا "([3]).

هذا ما کتبه فاروق جويدة، وسنحاول أن نفصل ما أجمله الشاعر من منظور علم الاجتماع رغم أننا نؤمن "وسيبقى الشعر". ونعيد السؤال الذي يفرض نفسه بقوة، ماذا بعد أزمة وباء کورونا ؟ وإلى أين يذهب العالم ما بعد هذا الوباء ؟ وکانت القضية الأعلى صوتاً والتي طرحت بقوة "المکسب والربح أم حق الإنسان في الحياة والبقاء والعيش"([4]). والاستمرار في الوجود، وهل نعيش أم نموت ؟

يقابل هذا الصوت، صوتاً آخر، يطالب بمعرفة الظروف التي ساعدت على انتشار الأزمة وتفشي الوباء بدلاً من توجيه الاتهامات الأمريکية إلى الصين، أو توجيه الاتهامات السياسية إلى الحکومات من خصومها وإلى منظمة الصحة العالمية، ووقف الدعم المالي لها، واتهام الجميع بالتقصير والفشل، وإذا کانت هناک عناصر کثيرة تتفاعل وراء الأزمة سواء أکانت الأزمة اقتصادية أو سياسية أو صحية أو حتى مثل أزمة مرفأ بيروت الذي حدث في 4 أغسطس، وسواء أکانت الأزمة أزمة دورية أو أزمة بنائية. تتفاوت في شدتها، فإن أزمة وباء کورونا حتى بعد 10 أشهر من ظهورها، مجهولة المصدر والنشأة، ورغم انتشارها في کل القارات، فأزمة وباء کورونا أزمة عالمية، تتفاوت حدتها وشدتها من مجتمع لآخر، ولم ينجو منها مجتمع.

بعض التفسيرات التي صنعت أزمة کورونا:

فثمة أسباب غير اقتصادية صنعت أزمة وباء کورونا، ولقد تعددت الأسباب، ولکن لم يثبت صحة واحد منها تجريبياً، ولا تعدو إلا أن تکون تخمينات أو فروضاً أو آراء أو احتمالات، ولم يثبت صحة واحداً منها علمياً، وکأننا رجعنا إلى عصر ما قبل الطب التجريبي، وهناک من يفترض أن السعي وراء المکسب وراء الأزمات الاقتصادية ولکن في أزمة وباء کورونا کانت الأزمة الاقتصادية نتيجة وليست سبباً، رغم أن أعداد المصابين تتزايد، وأعداد الموتى تتصاعد. وهناک من يطالب بفرض العزل والإنغلاق، وحماية أنفسنا من هذا العدو الخفي بدلاً من أن نحطم أنفسنا بإرادتنا، وتتوقف عجلة الحياة الاقتصادية والاجتماعية، قبل أن ينجز ويحقق ما طلب منه، أي تعمير الأرض، ولکن مقابل هؤلاء هناک من يطالب بالانفتاح وفتح مؤسسات الإنتاج.

تقول ألف باء البحث العلمي أن الأزمات لا تنشأ من فراغ، وأن لکل شئ سبباً، بل هناک حقائق بنائية تصنع الأزمات وتفجرها([5]). والسؤال من الذي صنع أزمة وباء کورونا، وجعلنا نفکر في تغيير مجتمعنا، ونبني مجتمعاً جديداً.

فالأزمة أثرت على صحة الإنسان، وأثبتت عجز الأنظمة الصحية في بلدان کثيرة، مثلها مثل الأنظمة السياسية عن مواجهة الأزمة، فالمجتمعات کلها لم تکن مستعدة لمواجهة أزمة کورونا الطارئة والمفاجئة، والتي لم نعرف سببها

کما قال د. فاروق الباز في مقابلة معه على شاشة قناة الحياة من القاهرة. فأزمة کورونا لا تقتصر على توجيه اللوم لحفنة من القياديين أو مجموعة من الناس، فمن الخطورة أن نرکز اهتماماتنا على نتائج کورونا، وکيف نتغلب عليها، ولا نعرف أسباب ظهور الأزمة.

إن الترکيز على نتائج أزمة کورونا، دون معرفة الأسباب، نوع من التفکير الخاطئ، ولذا فنحن في حاجة إلى نوع جديد من التفکير لمواجهة الأزمات التي تواجه الإنسان المعاصر، وإلى نوع جديد من التحليل العلمي للأزمات، فأزمة کورونا أشبه بمسرحية مؤلفها مجهول لنا، ولا نعرف الممثلين والدور الذي يمثله کل منهم، ولکن المشاهدين کثيرون، ويعتمد الخروج من المسرح – أي من الأزمة – على مجموعة من المبدعين والمنظمين سواء أکانوا من الوطنيين الملتزمين أو التنفيذيين، أو کانوا من الضحايا أنفسهم.

ولقد کشفت أزمة کورونا، بل عرت، وفضحت السياسيين ورجال الأحزاب، بعدما ثبت عجزهم عن فهم أسباب الأزمة، وإدارتها، وتحملت الحکومات في بلدان کثيرة وأولها مصر "الليلة بکاملها" کما يقول العامة.

لقد فرضت علينا الأزمة واقعاً جديداً، عرفنا خلاله أن النظام العالمي المعاصر غير قادر على حل أزماته([6])، والتي من صنيعته، ومن ثم فهل نحن قادرون على الخروج من الأزمة، هل نحن قادرون وراغبون في بناء مجتمع جديد؟ أم بقاء الوضع کما هو عليه، ونعيد ترتيب البيت القديم، هل نشيد مجتمعاً جديداً يختلف عن المجتمع القديم غير المتجانس، واللامتکامل والمتنافر، والذي يسوده التعارضات والاضطرابات والفوضى والاستغلال والحروب الأهلية في بعض المناطق، أو تحکمه السلطة المطلقة والحکم الشمولي والتي تتغذى وتنمو بدماء المعارضين، ولقد تعددت الآراء "وعثرة الرأي تردي".

ولا تعني الأزمات نهاية العالم، ولا تعني نهاية الرأسمالية الخبيثة والمتوحشة، ولقد کسب واحد من کبار الرأسماليين مليارين من الدولارات في يوم واحد، ولنا في قراءة التاريخ عِبّر ودروس، فالأزمات متتابعة، ولم ينتهي العالم، فبعد الحرب العالمية الثانية .. وتحول دول کثيرة إلى خرائب وأنقاض، وبعد قنابل هيروشيما وناجازاکي، والتي من صنع الأمريکان، وخروج العالم محبط مملوء بالفقراء والعجزة. وکانت ألمانيا واليابان أوضح مثال. ولکن الإنسان هناک هزم أزمات ما بعد الحرب؛ فالإنسان اعتمل عقله، ونفذ إرادته وقدرته على الفعل، وخرج آمناً مع کثير من الخسائر.

رؤي متعددة للعالم الجديد:

فالعالم لم يکن مستعداً عندما أتت کورونا واهتز العالم هزاً عنيفاً، ورجت المجتمعات رجاً، وانشطر البشر إلى عدة فرق. وتحيروا وتساءلوا ما المصير؟ ورغم الاختلافات الأيديولوجية بينهم وتباين العقائد اتفقوا على طرح أکثر من حل للعبور إلى المستقبل، وکان الحل الأول مظلم شديد اليأس.

وکان الحل الثاني مضيئاً متفائلاً يحمل آمالاً جديدة، أما الحل الثالث فطالب أصحابه ببقاء الوضع على ما هو عليه، مع إجراء بعض التحسينات، ونادى أصحاب الحل الرابع، بضرورة إصلاح المجتمع الإنساني إصلاحاً جذرياً، وإجراء تعديلات وتغيرات أساسية شاملة في النظم والسلوک، وإعادة تنشئة البشر تنشئة اجتماعية تتمشى مع قيم المجتمع الجديد، وکان لکل فريق أنصاره. ولکن کان هناک فريق خامس شديد الإيمان بأن هذه الأزمة إبتلاء، وسيخرج منها الإنسان برضاء الله سبحانه، وقال فريق سادس هذا الوباء عقاب إلهي بعدما ارتکب الإنسان الکثير من المعاصي والفسوق ولم يکترث.

ولقد تعددت الآراء إزاء تفسيرات الأزمة، وکيفية الخروج منها. ولکن الجميع يجمع على أن القرن الواحد والعشرين، جاء ومعه الدمار والخراب والانهيار الاجتماعي والاقتصادي والصحي والخلقي، وإفلاس بعض الدول وتغير مراکز بعض الدول وأدوارها في ملعب السياسة. وترکز الرؤية التشاؤمية على أن فکرة المجتمع الإنساني بدأت تدمر، تحت ضربات معاول الأزمات المتلاحقة، ابتداء من الأزمات الاقتصادية والإرهاب والحروب الأهلية والعنصرية وانتهاء بأزمة کورونا، ولکن المجتمع الإنساني لم يدمر کلية.

ولقد کشفت الأزمات کلها التباعد بين التفاعل والسلوک والأنساق الاجتماعية([7])، وضعف ارتباطات المواطنين کذوات سوياً، وتزايد الصراعات السياسية، ونضيف من عندنا واللامبالاة والفهم الخاطئ للدين. وقبل الأزمة ثبت أن حقوق الإنسان کانت تجارة في سوق السياسة ينادي عليها التجار الشُطار، أو تقرأ من الأوراق في المؤتمرات ولا تطبق([8]).

صورة بانورامية لعالم اليوم:

وکشفت الأزمة أننا نعيش في عالم فقد فيه البشر القدرة على أن يکونوا کما يريدون، ومثلما افتقدوا القدرة على أن يدافعوا عن حقوقهم الأساسية، بل عجزوا أن يکونوا من شريحة بني الإنسان، وإذا کان الأمر کذلک فلماذا يعيشون، بعدما أصبحوا عاجزين عن إعمار هذا الکوکب.

وتبين لنا قراءة التاريخ أن الإنسان لم يعش في تاريخه الطويل أزمة عالمية تعم العالم کله مثل جائحة کورونا، وبعد الأزمة أصبحنا نعي وعياً مفاجئاً ومباغتاً بمدى بعدنا عن القضايا المرتبطة بالإصلاح الاجتماعي والإنتاج، ومدى الحرمان من مزايا العمل ونتاج سواعدنا، فنحن نعيش في عالم مملوء بالثقوب.

رؤية تفاؤلية لعالم الغد:

ويقابل هؤلاء المتشائمون مجموعة من المتفائلين تتفاوت قوة الحلول التي يطرحونها. وقد أکد هؤلاء المتفائلون على قدرة الإنسان على خلق عالم جديد، وقيم جديدة، فأزمة کورونا لم تکن أول الأزمات، ولن تکون آخرها. ويسعى هؤلاء المتفائلون إلى بناء عالم جديد يعلي ويمجد شأن حقوق الإنسان، والقيم الإنسانية النبيلة الطيبة، ويحميها ولا يتاجر بها. وأهم هذه القيم العدالة والتسامح والسلام والانتماء إلى الوطن والإنسانية والأمن والرحمة والحماية من کل أشکال الاستغلال وعدم التعاون مع أعداء الديمقراطية، وقبل کل ذلک حق الإنسان في أن يعيش حياة کريمة، ويأمل هؤلاء في بناء مجتمع إنساني جديد يثق في العلم والعلماء ويؤمن بالتطبيقات العلمية والتفکير العلمي، وتطبيق المنهج العلمي في مواقف الحياة اليومية، بل وضرورة زيادة الإنفاق على البحث العلمي.

والسؤال الملح هل يسعى هؤلاء المتفائلون إلى تغيير الواقع وإعادة بناء مجتمع جديد، لا ترميم هذا المجتمع؟ وتعني ترميم في المعجم الإصلاح بعد فساد بعضه([9]). ونحن لا نقصد بالترميم أن الحقائق والظواهر القديمة کلها لم تعد صالحة وأن الوهن أصابها کلها، وأصبح المجتمع وهناً وأن علاج مشکلات المجتمع بالمسکنات هو الحل، بل نقصد الإصلاح الجذري، إحداث هزة عنيفة في بناء المجتمع وإعادة ترتيب الأفکار والأولويات ترتيباً منطقياً عقلانياً، ونقصد بالإصلاح التجديد([10])، لا الترقيع وسد خرق وثقوب هذا المجتمع.

ولقد کشفت أزمة کورونا الحاجة إلى إجراء إصلاحات جذرية في بناء المجتمع الإنساني، وضرورة إجراء تعديلات وتغييرات في بناء القيم والعلاقات الاجتماعية والسلوک والنظم الاجتماعية، إبتداء من أنظمة الاقتصاد والتعليم والصحة وبمحاربة الجهل، بکل أشکاله، – فلم يعد الجهل قاصراً على الجهل بقواعد القراءة والکتابة، – والعدالة في إشباع حاجات الإنسان، وإعادة تنشئة الکبار والصغار تنشئة اجتماعية تؤمن بالعلم والتجريب وتحترم العقائد السماوية، وتؤکد تکافؤ الفرص وعدم الاستغلال، وتبعد بنا عن الإتکالية کأسلوب حياة، وتستبعد تجار الحروب وتسعى إلى السلام وترفض الدمار.

وإذا کانت أزمة وباء کورونا في البداية وصفت بأنها أزمة صحية، وسببها فيروس لا نعرف مصدره، ولا نراه، وأن وباء کورونا، لا نعرف له علاجاً لنقضي عليه، والسبب فيروس مجهول، فالإنسان الذي وصل إلى القمر، وغزا الفضاء، عجز عن أن يعرف طبيعة هذه الحشرة، فالأزمات الاقتصادية– مثلها مثل الأزمات السياسية أو حتى أزمة المواصلات– معروفة الأسباب، ولها الکثير من التوابع التي تؤدي إلى تفکک أو تصدع البناء الاجتماعي، بل قد تدمر العلاقات بين الاقتصاد والنظم الاجتماعية المکونة للبناء، وقد تضعف الجسم الاجتماعي، ولکن أزمة وباء کورونا مجهولة المصدر والنسب حتى الآن.

عالم ما بعد کورونـــا:

ولقد نشرت جريدة الأهرام القاهرية([11])، نقلاً عن المستشرق الإيطالي جوزيبي سکابوليتي تساؤله عن عالم ما بعد کورونا، وهل سيصبح هذا العالم أکثر إنسانية، وأکثر توحداً بالقيم الروحية. بعدما دمرت کورونا الکثير من الناس ؟ وأثبت هذا الفيروس أن الإنسان الذي يعيش فقط على مستوى الإنتاج واقتصاد السوق ليس له قيمة". فالقيم الإنسانية الباقية الحقيقية ليست في المادة أو التکنولوجيا، أو المال، لقد کان الإنسان يعيش في حلم الجشع والمال ... وأفاقه خطر الحداثة وإهمال الجانب الروحي.

ونرى مسايرين ألين تورين أن الدفاع عن الحقوق الإنسانية هو الخطوة الأولى الضرورية لبناء مجتمع ما بعد کورونا، وهو السلاح الممکن الوحيد للحد من انتصارات وتوغل وتوحش الاقتصاد العالمي بأشکاله المتعددة، وأسمائه المتباينة، والرأسمالية في أثوابها المختلفة. فالأب الحقيقي المجهول لکورونا، والذي يهدد حق کل فرد في الحياة والطمأنينة والأمن والحرية، هو النظام الرأسمالي الليبرالي الذي وأد وأجهض حقوق الإنسان. فالقضاء على الوباء القاتل يتطلب ضرورة حماية هذا الإنسان، وتمکينه من الحصول على حقوقه.

فالأزمة فرضت علينا ضرورة إعادة بناء المجتمع والنظم الاجتماعية وأولها الاقتصاد، لتخدم الفاعلين الراشدين ولتحمي العالم بدلاً من الجري وراء المکاسب المالية، أيضاً فرضت علينا التأکيد على أهمية المعايير الأخلاقية([12])، بدلاً من التأکيد على المصلحة الخاصة والمنفعة الذاتية.

وفي مرحلة إعادة بناء المجتمع، ليس المهم الأحجار وبناء العمائر، بل المهم الإنسان الذي يشيد بالأحجار أعلى الأبنية ويستخدم الطرقات ويحافظ عليها. فالعالم بعد کورونا لم يعد يخضع لقوة الاقتصاد وحده، بعدما مات الضمير تحت أنقاض([13]) الدمار والخراب الذي خلفته الرأسمالية. ولکي نبني مجتمعاً جديداً أفضل، ونشيد نظماً جديدة تلبي حاجات کل الناس، ونُحدّث ونجدد العلاقات الاجتماعية، أي نبني مجتمع ما بعد کورونا، علينا أن نؤمن بأن الماضي قد انتهى، وأن العالم القديم قد تحول إلى أنقاض، وعلينا أن نبني ونشيد مجتمعاً جديداً يسعد أعضاءه، ويوفر لهم حياة کريمة تشبع حاجاتهم، ويبعد شبح الحاجة والخوف والاستغلال والظلم عن کل البشر، ويحقق العدالة لکل المواطنين وتکافؤ الفرص.

بيد أننا يجب أن نعي کل الوعي، أن عملية بناء مجتمع جديد، ليست بالعملية السهلة، فالمستفيدون من الوضع القائم، لن يقبلوا التجديد والتحديث وإعادة البناء، أيضاً هناک رواسب ومصالح ومنافع لن تجعل المجددين في راحة. أيضاً علينا أن نعي أن "العدالة القديمة"([14])، التي کانت سائدة في مجتمع ما قبل کورونا، لم يعد لها مکاناً في المجتمع الجديد. فمفهوم العدالة ليس مفهوماً نسبياً کما يدعي الفلاسفة السوفسطائيون و "إن ما هو حق، فهو حق بالنسبة لصاحبه، وأن ما هو عدل فهو عدل لي"، هذا زمان ولىّ وغابت شمسه، مثلما ستوليِ القوة الاقتصادية لبعض الدول، وتظهر قوى اقتصادية جديدة؛ فالعدالة المرجوة هي العدالة لکل البشر. ولقد أثبت الواقع أن الحرية الاقتصادية التي في رحمها تکون فيروس کورونا تتعارض مع فکرة العدالة الاجتماعية.

وقد کشفت أزمة کورونا أن المجتمع الإنساني في حاجة إلى إعادة بناء مجتمع جديد، تعطي فيه الأولوية للعلم، وإعادة إحياء القيم والمثل النبيلة بدلاً من الدفاع عن الملکية الفردية المستغلة، وتنظيم التجارة العالمية والليبرالية، والليبرالية الجديدة. ولقد أثبتت الشواهد بعد أزمة وباء کورونا ضرورة تدخل الدولة في القطاع الصحي، لحماية مواطنيها وتوفير العلاج وتوفير المساعدة والحماية لکل المواطنين، وتوفير الأدوية، وأن الدواء للأکثر احتياجاً، لا للأکثر قدرة مالياً، وعلاج غير القادرين، غير المشارکين في نظام التأمين الصحي. وهذا ما نجحت فيه بعض الدول، ومن بينها مصر.

والحقيقة أن أزمة کورونا لا ترتبط بالتحولات الاقتصادية مباشرة، وليست إفرازاً للنظام الرأسمالي وحده فلم يکن سببها المباشر احتکار الأسواق، أو اقتصاد السوق، وإن کانت تلک المسائل قد ظهرت على السطح بعد الأزمة، وصار الاقتصاد کعکة الکل يريد أن يقتطع منها قطعة، وأصبح الثراء هدفاً واکتناز المال أملاً، وتجلي ذلک في جهود اکتشاف اللقاح الجديد، وتسابق البعض لشراء حق احتکار اللقاح طمعاً في الربح، وأولهم "شهبندر" الرأسماليين وأصبح علاج الوباء مطمعاً، وهذا ما يأبى الضمير الإنساني بوجوده في مجتمع ما بعد کورونا. ولقد أصبحنا بعد تفشي وباء کورونا في حاجة إلى السيطرة على الإنتاج والاستهلاک، وأن نضع في حساباتنا حاجات وإمکانيات ومطالب کل شرائح البشر.

لکن هل ترضي المجتمعات الغنية أن تتساوى مع المجتمعات الفقيرة، وکيف تقبل الشعوب الغنية توزيع الدخول توزيعاً عادلاً مع الشعوب الفقيرة، وهل نعود إلى المثاليات، وهل تقلل الشعوب الغنية من تطلعاتها وتتنازل عن رفاهيتها. وهل ستزيد الشعوب الفقيرة من تطلعاتها ومطالبها، هل تقلل الشعوب الغنية من احتياجاتها ومظاهر البذخ، وتغير طريقتها في الحياة، وتخفض من سقف احتياجاتها. الحقيقة أن الرفاهية وکيفية اشباع الحاجات مسألة أخلاقية، وليست مسألة اقتصادية. لقد أصبحنا على وعي بأن الأزمات المتلاحقة التي تطحن البشر، وآخرها أزمة وباء کورونا لا تحلها الحلول الفردية، بل تواجه بقرارات جماعية تنظم حياة البشر. ولقد فرضت أزمة کورونا على العالم أن يفکر، کيف نحقق التوافق والتکامل بين الحاجات الملحة ؟ وکيف نحقق للإنسان إنسانيته، ونشبع حاجاته الأساسية، ونحترم حقوقه.

نماذج للمجتمع الجديد:

وعن صورة المجتمع الجديد، طرحت نماذج عديدة بعيدة کل البعد عن النمط المثالي عند ماکس فيبر، مثلما طرحت أسئلة تبحث عن أجوبة وأهم هذه النماذج والأسئلة ما يلي:

* هل کانت مجتمعاتنا مستعدة لمواجهة کورونا ؟ وهل هى قادرة على هزيمة هذا الوباء؟

* ماعمق التغيرات التي أحدثتها کورونا ؟ وما أهم هذه التغيرات ؟ وهل التغيرات جوهرية وجذرية ؟

* ما تأثير أزمة کورونا على تغيير العلاقات الاجتماعية ؟ وما تأثيرهاعلى القيم المتوارثة ؟

* ما تأثير کورونا على العلاقات بين الاقتصاد والعناصر الاجتماعية المکونة للمجتمع في المرحلة القادمة ؟

* هل نحن قادرون على تعريف وتحديد شکل ومضمون بناء المجتمع الجديد ؟

* ما قدراتنا على أداء الفعل الجماعي ؟ وما حدود هذه القدرة ؟

* ما حدود تدخل الدولة في توفير مطالب واحتياجات المواطنين؟

* ما حقوق الإنسان الأصيلة التي لا غنى له عنها ؟

* کيف نرتب وننظم احتياجات الإنسان المعاصر ؟

* هل سيبقى علماء الاجتماع في نعيم الدفء ومنطقة الراحة بعيداً عن معترک الحياة ومشکلات الإنسان، أم سينزل العلماء الملتزمون إلى الشارع، يخالطون الناس ويعيشون مثلهم ويتألمون مثلما يتألمون، ومن ثم يعرفون أوجاعهم ؟

الحقيقة، والتي نکررها دوماً نحن في حاجة إلى حياکة نسيج اجتماعي جديد يقوم على التأکيد على حقوق([15]) الإنسان، وتطبيقها في الواقع.

لقد کشفت لنا أزمة وباء کورونا، عن آثار اجتماعية سلبية، ما نود أن تتکرر صورها في مجتمع ما بعد کورونا وأهم هذه الآثار السلبية اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية، وانعکاس ذلک على صحة المواطنين وخاصة في البلدان النامية والفقيرة، وقبل تلک الدول، الدول الغنية التي تأثر فقراؤها بالأزمة.

حقوق الإنسان في المجتمع ما بعد کورونا:

وقد کشفت لنا الأزمة أن لکل مواطن الحق في التمتع بإشباع حاجاته الاجتماعية ابتداء من حقه في سلامة صحته وخلوها مما يفسدها، الصحة والعلاج والرعاية الصحية، وحق التعليم الجيد، وحق المسکن المناسب، وحق العمل، وحق التعبير. وحق الحراک الاجتماعي. فالمسألة أصبحت مسألة أخلاقية([16])، بعدما کانت مسألة اقتصادية أو مسألة صحية، فالمسألة الملحة هي حق الإنسان في حياة کريمة، وهذا حق أصيل، فلم تعد المسألة الإنسانية تدور حول المکسب والخسارة نعيش أم نموت، وتراکم الثروات، أو حق من يمتلک السلطة المالية في تقرير مصير الآخرين. نحن في حاجـة إلى مجتمع يؤکد حقـوق المرضى في العلاج([17])، سـواء أکانوا من سکان الريف أو الحضر، سواء أکانوا من الکبار المسنين الذيـن وصفوا يوماً بأنهم أهل الخير والبرکة أو الصغار، سواء الرجال أو الإناث.

وقد أرجع تورين([18])، إلى Hannahave الفضل في صياغة مفهوم الحقوق، وخاصة مفهوم الحقوق الإنسانية، بعد الاضطرابات التي حدثت في عام 1791 عقب الثورة الفرنسية. ولقد أکد Hannahave أن من حق الکائنات البشرية أن يکون لهم حقوق، وصدر قانون حقوق الإنسان في الأربعينيات من القرن العشرين بعد ما يقرب من صيحة Hannahave بمائة وخمسين عاماً. ولکن الحقيقة أن مفهوم حقوق الإنسان، ليس إبداعاً فرنسياً، ولا مِنَّة غربية، ولا إحساناً من مفکري السلطة الرأسمالية، فمنذ عصور قديمة وبعيدة، نادى بعض المفکرين الإسلاميين بالعدالة، وحقوق الإنسان، وتمنوا وسعوا إلى بناء مجتمع يؤکد على العدالة في المعاملات وأعادوا ما قاله رسول المسلمين: "من لا يرحم الناس لا يرحمه الله "([19]). والرأسماليون الکبار لا يرحمون أحداً، فالمجتمع الإنساني الذي نتمناه يرفض القسوة في الأخلاق، ولا يقبل الاستغلال، ويستأصل الفقر([20]). وقد حدد أستاذ فلسفة الأخلاق إبراهيم اللبان ضرورات الحياة في المجتمع الإسلامي الأول، ولکن هذه الحاجات متغيرة ونسبية، فلم تعد قاصرة على الطعام والملبس والمسکن، وکلها حاجات ضرورية وحيوية. وقد أدت التحولات الاجتماعية والاقتصادية إلى انبثاق ضرورات ومطالب وحاجات جديدة مثل الحاجة إلى الصحة والتعليم والمعرفة. فالخطوة الأولى من أجل بناء مجتمع ما بعد کورونا، التأکيد على حقوق الإنسان، وترسيخ القيم الإنسانية الايجابية، واحترام الإنسان المنتمي والنشط، أما الإنسان اللامبالي السلبي أو المستغل للآخر، فلا مکان له في المجتمع الجديد. ومن حق أي إنسان أن يعيش في المجتمع الجديد([21])، ولکل إنسان الحق في أن يعيش في حرية، وأن يعرف وأن يتعلم، وأن يأکل، وأن يجد المأوى المناسب، وأن يعالج وأن يجد الدواء، وأن يعمل. فالمجتمع الجديد يؤکد أهمية العمل، فالعمل يشکل رسالة في الحياة، والإنسان العامل المنتمي إلى قضايا الإنسان يدين لا معقولية الربح، ويدين الأزمات التي تدمر إبداعات الإنسان، ويقدر ويثمن القوى المنتجة، فالعمل الإنساني هو سر التقدم، فالمجتمع الجديد يعترف بقيمة العقل والعمل والعلم والثقافة. وفي هذا المجتمع الجديد الذي يؤمن بقيم الحداثة لا يعني انتصار الواحد، بل اختفاء هذا الواحد وهذا المجتمع الجديد يرفض الثورة والديکتاتورية.

وفي هذا المجتمع الجديد، يحق لکل إنسان التمتع بالروابط الاجتماعية، والصلات الاجتماعية بعيداً عن العالم الإنساني الذي يحکمه الربح والمکسب والجشع والاستغلال. وهذا المجتمع الجديد يعلي من شأن الإنجاز، وحق کل إنسان في الإنجاز والحراک الاجتماعي رأسياً وأفقياً، وفي ذلک المجتمع لا مکان للانتماء الأسري أو الطبقي ولا يرفع من شأن أنت ابن مين أو "کارت الواسطة". فالمجتمع الجديد في حاجة إلى إحياء القيم التي تحترم حقوق کل البشر، وتمجد العلاقات الجديدة التي لا تميز بين البشر حسب الدين أو الجنس أو الثروة أو اللون أو الوضع المتوارث. فالمجتمع الذي نأمل ونتمنى بناءه، مجتمع يعترف بقيمة العقل، مجتمع يحترم ويؤکد العمل والإنجاز، فالعمل يشکل رسالة الحياة، ويرفع هذا المجتمع شأن من يتقن عمله، ويقدر القوى المنتجة.

وفي هذا المجتمع الجديد، مجتمع ما بعد کورونا، الذي يؤمن بالعدالة وحقوق الإنسان وقيم الحداثة، لا مکان فيه للحاکم المستبد، بل ضرورة اختفاء هذا المستبد، فهذا المجتمع المنتج يؤمن بالمشارکة والديمقراطية واحترام الآخر، ويرفض الثورة الهوجاء.

ونحن لسنا في موقف الخيار بين التعايش مع أزمات متلاحقة، ومشروع بناء مجتمع جديد، فهذه الأزمات لا تعني انهيار المجتمع الإنساني([22])، ولکنها تعبر عن حالة التهرؤ والتمزق في النسيج الاجتماعي، وتؤکد أن هذه الأزمة – مثل کل الأزمات الأخرى – لم تنشأ صدفة مثل الأزمات التي تصنعها الطبيعة؛ بل وليدة أسباب بيئية ومجتمعية، فالأسباب الظاهرة والکامنة لهذه الأزمات تبين أنها من صنع البشر، وأن المصالح المتعارضة هي التي تحکم علاقاتنا، بل هي إفراز طبيعي للمصالح المتعارضة، وأول هذه الأزمات سلب القَوِيٌ حق الآخر الضعيف في الحياة الکريمة، فمن حق الإنسان في المجتمع الجديد أن يعيش حياة جديدة کريمة في عالم جديد، بدلاً من أن يعيش البعض في مناطق متخلفة لا آدمية تتجاور فيها حظائر الماشية مع أماکن مبيت البشر.

کنا قبل أزمة وباء کورونا – کنا – نعيش حالة صراع بين المکاسب والمغانم ومن يکسب أکثر، وحق الإنسان في أن يعيش حياة آدمية، کنا قبل أزمة کورونا نعيش حالة المکسب قبل حقوق الإنسان، ولا يعلو صوت فوق صوت الربح، وکان المال يقهر الأخلاق ويميت الضمير الإنساني، والحقيقة أن إعطاء الاهتمام الأکبر للنسق الاقتصادي وحده، وأنه المحرک الأول للحياة في مجتمع ما قبل کورونا، قد يکون سبب البلايا وعلة کل الأزمات، ولقد أثبتت التجارب الإنسانية أن أخلاق السوق وحدها، لا تيسر ولا توجه حياة کل البشر.

الدعوة إلى مجتمع جديد:

ولقد فجرت المواقف المتتابعة بعد أزمة کورونا والتي يخاف البعض منها لأنها قد تهلکنا وتنهکنا وتضنينا الدعوة والمناداة إلى ضرورة بناء مجتمع جديد، وتنبأ البعض بولادة بناء اجتماعي جديد، ولکننا قبل ولادة المجتمع الجديد نعيش مرحلة مخاض مجتمع جديد، لا نعرف نوعه ولا شکله، هل هو مجتمع تتماسک وتتکامل عناصره؟ هل يقوم على التعاون والسلام ؟ أم يعيد بناء المجتمع القديم، ويعود أکثر طمعاً واستغلالاً ولو على حساب حياة الآخرين. فالمهم هو الربح، أم نبني مجتمع مغولي مشوه ؟

فالمجتمع الذي يأمله ويتمناه المثقفون والمفکرون بعد وباء کورونا، مجتمع يهتم ويعلو من قيمة الإنسان ويعطي الأولوية للخدمات التي تشبع حاجاته، ويحقق له حقوقه. وهذا يعني بداية عهد جديد، يؤکد عدم هيمنة أو سيطرة النسق الاقتصادي على الأنساق السياسية والاجتماعية والتعليمية والثقافية. ومن ثم نهاية سيطرة وتسلط الاقتصاديين على السياسيين، وضرورة التعامل مع العدالة والحرية والمساواة باعتبارها حاجات أساسية وليست ترفاً، بدلاً من إعلاء شأن السلطة الاقتصادية والقوة والاستغلال والمکسب. فأزمة وباء کورونا فرضت علينا أن نتوقف ونجتر تجاربنا، وأن نعترف بأن المصالح الاقتصادية وحدها، لم تعد تدفع الفاعلين إلى التقدم، ولکن رغبة هؤلاء الفاعلين في التمسک بحقوقهم، والدفاع عنها، هو المحرک الأول لأفعالهم وبناء مجتمع أفضل، وإلا ما سقط الملايين من ضحايا الوباء، حق الإنسان في أن يعيش حق أصيل، وأن يشبع حاجاته، مطلب ضروري، وحقه في أن ينال حقوقه ومطالبه، أمور أساسية، وليست منحة وليست تنعماً.

فالوباء کان أشبه بمجموعة أجراس دوي صوتها فجأة في عصر يحکمه قوانين السوق والربح ولکي نعيد حساباتنا بعدما عجزنا عن علاج المصابين وتجاوز عددهم الخمسين مليوناً، ولم نقدر على دفن الموتى بل ورفض الأهل والجيران دفن موتاهم خوفاً من العدوى !!، وتفضح صور الموتى، التي تبث يومياً حال المجتمع في زمان کورونا، ومدى قصور الخدمات الصحية وضعف المشاعر الإنسانية.

وإذا کانت ثمة معوقات تعوق نشأة وبناء مجتمع إنساني جديد، فإن الإيمان بحقوق الإنسان والدفاع عن هذه الحقوق، والشعور القوى بالمساواة والعدالة وحق الحياة لنا وللآخر، کلها أمور تکتسح هذه المعوقات التي أفرزتها الرأسمالية المتوحشة الخبيثة، وتمهد بالتدريج بناء مجتمع جديد يؤمن بالتغيير السلمي، وثمة سؤال يخطر على الخاطر، مؤداه کيف نبني مجتمع ما بعد الجائحة ؟

فالأمر کما کتبت حنان البدري([23]) في جريدة الأهرام، ليس صعباً، ولايتطلب الأمر إلا إعادة توزيع الناتج القومي توزيعاً عادلاً، وتوفير حد معقول من الدخل المنتظم، وتوفير الخدمات وتوزيعها توزيعاً عادلاً، أي تحسين ظروف الحياة، ومن ثم توفير الحياة الطبيعية للجميع، ولا تفاوت بين الناس في إشباع الحاجات الأساسية، ولا حرمان للبعض، ولا إفراط للبعض، ولا تفريط للبعض الآخر. ولا نسمح برغد العيش وتنعم الأقلية المرفهة بالعيش الطيب الواسع، ونقبل حرمان الأغلبية ومنعهم من الحصول على العلاج والتعليم والغذاء الصحي والمسکن الآدمي. وفي هذا المجتمع الجديد يفترض احترام العقل والعمل المنتج والعلم والتجريب من أجل تحقيق مجتمع الوفرة.

فرضت علينا أزمة وباء کورونا، وتزايد أعداد الموتى يومياً ونقص مناعة الکثيرين بسبب سوء التغذية، وإصابة ما يزيد عن 50 مليون إنساناً بالفيروس، - فرضت – علينا إعادة تقييم النظم الاجتماعية السائدة، بل کل القيم، وکل العلاقات، من أجل حماية الإنسان الفاعل الذي سقط وإنهزم أمام کائن حي غير مرئي، بدلاً من السعي وراء المکسب والمال والمنفعة، فالأيديولوجيات وحدها أصبحت عاجزة أمام القضاء على الفيروس، ولم تفعل شيئاً بل وقفت عاجزة، بعدما حصد الوباء الأرواح بلا ذنب.

هذا المجتمع الجديد لا يبني فجأة، ويتطلب مرحلة نقلة تبدأ بفرز النظم والقيم السائدة المألوفة، وقبل أن نهدم غير الصالح من القيم والنظم، علينا أن نحافظ على المقومات، ونحترم الرسالات السماوية، ونعزل الصالح ونتمسک به وندعمه ونستبعد العناصر الاجتماعية التي تسئ إلى الإنسان.

ولا مکان في المرحلة المقبلة الجديدة، لمقولة أنصار المدرسة البنائية الوظيفية. " بقاء الوضع على ما هو عليه "، ثم نبدأ المرحلة الثانية ونبدأ في تشييد مجتمع تبنيه سواعد قادة جدد يؤمنون بحق الإنسان في المساواة والعدالة والحياة الکريمة. ولم يتوحدوا بقيم الرأسمالية الخبيثة والمتوحشة، ونکرر نحن لا ندعو إلى الثورة، فالثورة لا تجلب إلا الفوضى والخراب والاضطرابات بل ندعو إلى التعقل واحترام العقل، والعمل الجاد واحترام الآخر، والتفرقة بين الثوابت والمتغيرات والرواسب، وإبقاء ما هو صالح منها؛ فمجتمع ما بعد کورونا، يقوم على الحياة الکريمة، ويمجد السلام والمساواة والعدل والطمأنينة، واحترام الآخر. فالفاعلون أعضاء المجتمع الواعون([24])، بإنسانيتهم هم القادرون على مواجهة قوة وسلطة الاقتصاد المستغل، وقهر التخلف والحرمان المادي، وإحلال ثقافة جديدة بدلاً من ثقافة الفقر، والاستغلال، والتمييز العنصري. مجتمع لا مکان فيه للإرهاب والإرهابيين والأفکار المتطرفة، وفي هذا المجتمع يعيش فاعلون قادرون على مقاومة إغراءات الربح المشروع وغير المشروع.

فالمجتمع الجديد له شکل جديد، ومضمون جديد، مجتمع يسعى إلى بناء نظم اجتماعية جديدة، ترفع من قيم التضامن وتقلل بل تجتث فرص الظلم الاجتماعي وقبل ذلک کله الإيمان بالإنسان، ويسعى هذا المجتمع إلى إعادة بناء البنية التحتية، وإعادة ترتيب وتنظيم البنية الفوقية، وتحسين الأوضاع المعيشية، وتحقيق تکافؤ الفرص، ويبتر بل ويجتث هذا المجتمع الجديد کل مظاهر الحرمان المادي، وأشکاله المتعددة.

والأمر المسلم به أن الأزمة – بداية أية أزمة – لا تولد ولا تؤدي في ذاتها إلى ميلاد ونشوء مجتمع جديد، ولکن الأزمة قد تساهم في تصدع أو انهيار بناء المجتمع القديم، أو تعجل بسقوطه أو قد تجهض ميلاد مجتمع جديد من رحم المجتمع القديم، وقد تعجل الأزمات وتشجع أو تمنع تدخل الدولة في تسيير أمور المجتمع.

وأزمة کورونا في مصر کان لها وضع خاص، تعکس أصالة وخصوصية مصر والمصريين فلم تهدم المجتمع کلية، ولم توقف عمليات التنمية، وإن تباطأت معدلاتها، عکس بلدان کثيرة، ومهدت الأرض لتدخل الدولة للحد من انتشار الوباء، عکست الأزمة أصالة وحيوية المصريين ومدى استفادتهم من التجارب ولکن ليس کل المصريين ملتزمين، فهناک البعض غير المبالي. ويؤکد هذا الرأي ما کتبه علي الدين هلال. وهو يرى أن المجتمعات الحية لا تهزمها الأزمات، بل سوف تعمل على الاستفادة منها ومن الإجراءات الاستثنائية([25])، أيضاً تتطلب مرحلة التجديد نبذ القيم السلبية.

ولقد کشفت أزمة وباء کورونا أن الإنسان المعاصر في بداية القرن الواحد والعشرين في أشد الحاجة إلى نظم اجتماعية جديدة قد تختلف عن النظم المتوارثة من المجتمع الرأسمالي([26]) القديم، أيضاً يحتاج الإنسان الجديد إلى نظم جديدة تؤکد أهمية التفاعل الاجتماعي، والدفاع عن حقوق الإنسان، بل وشدة الحاجة إلى شکل جديد من العلاقات الاجتماعية، وترفض الکثرة المستنيرة الخضوع لرحمة الاقتصاديين، وألاعيب السياسيين ومصالح الأحزاب.

ويرى علماء اجتماع کثيرون أن تلک العملية، عملية بناء مجتمع جديد، هي الهدف الأساسي والرئيسي لعلم الاجتماع المعاصر، والذي عليه أن يمهد الأرض ويحرثها ويشقها ويذللها من أجل بناء مجتمع أفضل. فالهدف المطلوب إعادة بناء المجتمع، وإعادة تنشئة الإنسان تنشئة اجتماعية جديدة. فهذا الهدف هو الشغل الشاغل لعلم الاجتماع منذ کونت، فالتکامل بين عناصر المجتمع هو الهدف في المجتمع الجديد، الذي يرفض الاستغلال والاستبداد والعنصرية والتطرف، وعدم المساواة، ويؤکد المساواة والعدالة والتسامح، وحقوق الإنسان.

وفي مواجهة أزمة کورونا ينبغي رفض الحلول النظرية والمکتبية والحلول التلفيقية، والنظريات التي يقول بها الاقتصاديون الأکاديميون والسياسيون الجالسون في غرف مکيفة والمعزولون عن الواقع والطامعون في الحصانة وزيادة رأس المال. نحن نريد علماء اجتماع يمشون على الأرض ولکن لا يمشون مرحاً، ويجالسون الناس، ويسمعون مطالبهم ويعرفون مصائبهم وأحزانهم، ويحبون الناس، ولا يتعالون عليهم، ولا يرددون کالببغاوات قضايا علم الاجتماع الأوروبي أو الأمريکي دون فهم، ولا يکتنزون الذهب والفضة وينسون أحوال الناس وهمومهم. وفي مواجهة الأزمة يتعين على الاجتماعيين الملتزمين أن يقدموا طرحاً جديداً، أي مبادرات وحلولاً جديدة نابعة من واقع مجتمعنا لبناء مجتمع جديد، تنتهي فيه سيطرة الاقتصاديين وهيمنة الرأسماليين الجشع.

فإعطاء الاقتصاد الأولوية، ووضعه على قمة البناء، لم يعد مقبولاً، وعلينا أن نقر بأن الإنسان لا يعيش على الخبز وحده، ولا بالحب وحده، وأن نقر أن بعض الرأسماليين خربوا الذمم، وقدموا العمولات غير المشروعة، وزادت لا معقولية الربح، ونحن لا نکابر ونتجاهل الاقتصاد، ولکننا في الوقت نفسه لا نتجاهل قوة النظم الأخرى. ولذا فنحن في حاجة إلى بناء مجتمع إنساني جديد، يؤکد حقوق الإنسان، والعمل الإنساني الشريف، ويرفض الجشع الذي يدمر العمل الإنساني الشريف.

وإذا أردنا معرفة الأسباب التي وراء الأزمات، علينا أن نبحث عن العوامل الاجتماعية والثقافية الظاهر منها والخفي ودوافع السلوک التي وراء الأزمات.

فالإنسان الملاک الطاهر ليس موجوداً، فالإنسان الذي يعيش فوق هذا الکوکب لا يريد أن يتنفس هواءً ملوثاً، ويرغب في أن يعيش ويأکل الطعام الصحي، ويأمل في مأوى مناسب، وأن يشرب مياه صحية، وأن يعلم أولاده تعليماً جيداً يتناسب وقيم العصر وهذا الإنسان له حساباته وله مکاسبه وله خسائره. وينال حقوقه، وعليه أن يوفق بين مصالحه ومصالح المجتمع، وإلا سيحترق العالم کما قال کيسنجر

([1]) البيان الختامي لمجموعة العشرين في السعودية – أخبار العربية Google News.
([2]) جريدة الأهرام في 22/11/2020.
([3]) فاروق جويدة : جريدة الأهرام – عامود هوامش حرة في 13/5/2020.
(2) Alain Touraine: After the Crises, op. cit., p. 57.
(1) Alain Touraine: After the Crisis, Polity Press, Cambridge, U.K..2014. Translated by Helen Morrison, p. 47.
(2) Ibid, p. 50.
(1) Alain Touraine: After the Crises, op. cit., p. 149.
(2) Ibid, p. 32.
(1) إبراهيم أنيس محرراً : المعجم الوسيط: الطبعة الثانية – دار المعارف – الجزء الأول، ص 374؛ جبران مسعود : رائد الطلاب، بيروت – دار العلم للملايين – 1967 – ص 474.
(2) Alain Touraine: After the Crises, op. cit., p. 68.
([11]) جريدة الأهرام – ملحق الجمعة – العدد 48717 في 24/4/2020.
(1) Alain Touraine: After the Crises, op. cit., p. 107.
(2) Ibid., p. 47.
(1) Alain Touraine: After the Crisis, op. cit., p. 113.
(1) Alain Touraine: After the Crises, op. cit., p. 147.
(1) Ibid., p. 147.
(2) Alain Touraine: After the Crises, op. cit., p. 61.
(3) Ibid., p. 97.
(1) عبد الحليم محمود : منهج الإصلاح الإسلامي في المجتمع – القاهرة، الهيئة المصـرية العامة للکتاب، 2001، ص 167؛ إبراهيم اللبان : العدل الاجتماعي، ص114.
(2) إبراهيم عبد المجيد اللبان : العدل الاجتماعي، تحت ضوء الدين والسياسة، القاهرة، وزارة الثقافة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2012، ص 111.
(3) Alain Touraine: After the Crises, op. cit., p. 157.
(1) Alain Touraine: After the Crises, op. cit., p. 158.
(1) حنان البدري: جريدة الأهرام، يوم 19/6/2020.
(1) Alain Touraine: After the Crises, op. cit., p. 122 – 123 .
(2) علي الدين هلال: جريدة الأهرام في 5/7/2020.
(1) Alain Touraine: After the Crises, op. cit., p. 122.