من جائحة کورونا إلى جائحة البطالة ، تحليل سوسيولوجي " مع إشارة خاصة للمجتمع المصري

نوع المستند : أبحاث علمیة

المستخلص

لا يحتاج الأمر لمجهود کبير لتوضيح الآثار التي ترتبت على جائحة کورونا ، تلک الجائحة التي حبست أنفاس العالم ، وأربکت التاس والحکومات ، وأحدثت شللا في الحياة والأنشطة ، وباعدت بين الناس والجماعات ، وأرغمت الحکومات والمخططين وصناع السياسة على إعادة ترتيب الأولويات ، وغيرت ملامح الحياة الاجتماعية بکل معنى الکلمة .
          إن جائحة کورونا موضوع مثير للاهتمام ، وأهميته تأتي أولا ، من أنه يشغل اهتمام الجميع ، وينشغل به کل الناس تقريبا . وثانيا ، لأنه موضوع يطرح أسئلة عديدة ، ولا يقدم أية اجابات واضحة ومحددة . فالحاضر ما يزال غامضا ، والمستقبل لا يزال غير محدد المعالم .
          إن موضوع جائحة کورونا بأبعاده المختلفة ، يتصف کله بالجدة . فالموضوع برمته جديد على التجربة الانسانية . ومع ذلک فإن هذه الدراسة تتصف بزاوية متميزة وهي ترکيزها على طبيعة العلاقة بين جائحة کورونا ، وجائحة البطالة ،اذا جاز التعبير . وتتحدد مشکلة الدراسة في اهتمامها بزاوية جديدة يحيط بها الغموض وسؤال بحثي رئيسي وهو :
هل جائحة کورونا ترتبط بجائحة البطالة ؟ وما طبيعة الارتباط بين هذين المتغيرين زمانا ومکانا ؟
للاعتبارات السابقة ، استعانت الدراسة بمنهج التحليل الثانوي secondary analysis method  ، وذلک بالاعتماد على عدد من الدراسات والتقارير روعي في اختيارها بعض الشروط أهمها  اتصالها الوثيق والمباشر بموضوع البحث ، حداثة التقارير والبيانات ، بجانب عامل الاتاحة .وتنفرد الدراسة الراهنة بميزة مهمة وتتمثل في اجتهادها بعمل استطلاع لرأي عينة من أرباب الأسر بمحافظة المنيا عن" العلاقة بين جائحة کورونا والبطالة " .وقد أمکن من خلال الاستطلاع تمثيل الريف والحضر ومختلف الفئات ،
وقد خلصت الدراسة إلى أن جائحة " کورونا " قد تحولت من جائحة صحية وبائية إلى جائحة لسوق العمل ، حيث تسببت سياسة الاغلاق والحظر في أضرار مباشرة لبعض القطاعات وأکثرها تأثرا قطاع الخدمات والقطاع الخاص . وينطبق ذلک تماما على الحالة المصرية ، وحيث أن هذين القطاعين هما المصدر الرئيسي تقريبا لتوفير فرص العمل في مصر ، فإن ذلک يعني صحة افتراضنا بوجود ارتباط بين جائحة کورونا وجائحة البطالة في العالم عموما وفي مصر على وجه الخصوص 

الكلمات الرئيسية


في المقدمة :

          لقد أصبحت جائحة کورونا حديث الناس في کل مکان ، وفي کل وقت ، حديث الساعة ، حديث الصباح والمساء . فلا صوت يعلو فوق صوت " کورونا " ، ولا حديث إلا عن هذا الموضوع ، في المنزل مع أفراد الأسرة ، وفي الاذاعة والتلفزيون ، وفي الشارع والعمل . في کل هذه الأوساط ، مع الأقارب والجيران ، والزملاء والأصدقاء ، وعلى مواقع التواصل الاحتماعي ، الکل يتحدث عن هذا الموضوع .

          والمثير للاهتمام ، أنه حتى فترة قريبة للغاية ، لا تزيد عن 270 يوما – ومنذ تسعة شهور فقط – لم يکن أحد على هذا الکوکب يعرف مفردة " کورونا " . وخلال فترة وجيزة ، بدأت هذه المفردة تتردد على ألسنة الناس في کل مکان في العالم ، وأصبحت هي المفردة الرئيسية التي انتشرت بسرعة فائقة ، کالسرعة التي انتشر فيها المرض إلى کل مکان في العالم ، وتحول من المرض الغامض ( في بداية ظهوره ) إلى الوباء ، ثم الجائحة ، الجائحة التي اقتحمت مختلف قارات العالم ، واخترقت حدود کل الدول ، وأثرت في کل أنحاء المعمورة بدون مبالغة .

          ولا يحتاج الأمر لمجهود کبير لتوضيح الآثار التي ترتبت على جائحة کورونا ، تلک الجائحة التي حبست أنفاس العالم ، وأربکت التاس والحکومات ، وأحدثت شللا في الحياة والأنشطة ، وباعدت بين الناس والجماعات ، وأرغمت الحکومات والمخططين وصناع السياسة على إعادة ترتيب الأولويات ، وغيرت ملامح الحياة الاجتماعية بکل معنى الکلمة . فإذا کان علم الاجتماع يهتم بالعمليات الاجتماعية ويصنفها لعمليات مجمعة وأخرى مفرقة ، فإن جائحة کورونا قد أثرت في ترسيخ العمليات المفرقة والمثال الواضح لذلک هو التباعد المکاني والاجتماعي ، الذي أصبح النداء الرئيسي للبشرية جمعاء .

          إن المشکلة في موضوع جائحة کورونا لا يتمثل في قلة التحليلات ، ولا قلة المحللين ، أو نقص عدد المتحدثين عن الموضوع . بل العکس هو الصحيح تماما ، فللأسف ، الکل تقريبا يتحدث عن موضوع کورونا بعلم أو بدون علم ، وقد يصل الأمر بدون مبالغة للشائعات ، بل والاساطير أحيانا . ففي تحليل حديث للطبيب المعروف الدکتور / حسام موافي في إحدى القنوات التلفزيونية ، ذکر فيه أنه قام بمراجعة أحاديث وتقارير لعدد 100 شخصا ، ممن تحدثوا عن الموضوع ، واکتشف أن 3 فقط منهم من المتخصصين ، والبقية لا علاقة لهم من قريب أو من بعيد بذلک . 

          إن جائحة کورونا موضوع مثير للاهتمام ، وأهميته تأتي أولا ، من أنه يشغل اهتمام الجميع ، وينشغل به کل الناس تقريبا . وثانيا ، لأنه موضوع يطرح أسئلة عديدة ، ولا يقدم أية اجابات واضحة ومحددة . فالحاضر ما يزال غامضا ، والمستقبل لا يزال غير محدد المعالم .

          ومن المؤکد ، أن الجانب الطبي والصحي ، الوقائي والعلاجي ، هو الجانب الأهم ، لأنه هو الجانب الحيوي الذي يشغل الجميع ، وخاصة عموما المجتمع ، لکن هذا الجانب لا يدخل ضمن اهتمامنا في هذا التحليل المتواضع على الرغم من أهميته . إن هذا التحليل معني في المقام الأول ، بالکشف عن الأبعاد الاجتماعية الاقتصادية لجائحة کورونا ، وبتحليل طبيعة العلاقة بين جائحة کورونا وجائحة البطالة وتحديدا ما يتعلق باتجاهاتها صعودا وهبوطا ، وأنماطها ، وخصائص المتعطلين ، وأکثر القطاعات والفئات التي تضررت .

أزمة کورونا وأبعادها وانعکاساتها ، قراءة في عناوين التقارير والتحقيقات :

          إن موضوع جائحة کورونا لا يمکن اختصاره أو اقتصاره على الجانب الصحي أو الطبي فقط ، وهو بالطبع الجانب الأهم ، على الأقل لأن المشکلة بدأت بوادرها الأولى بهذا الجانب . فالتقارير والتحقيقات الأولية عن الموضوع وصفته بالمرض الغامض . لکن جائحة کورونا تنطوي تقريبا على کل جوانب الحياة والمجتمع من اقتصاد ، وأسرة ، وتعليم ، وسياسة ، وثقافة . لهذا السبب ، فإن جائحة کورونا هي من الموضوعات والقضايا القليلة التي أثارت اهتمام المحللين والباحثين من کل التخصصات تقريبا ، علاوة على التقارير اللحظية التي تصدرها المنظمات والهيئات الدولية ، کمظمة الصحة العالمية ، والبنک الدولي ، وصندوق النقد الدولي ، والاتحاد الأوربي ، واليونسکو ، والاسکوا ، ناهيک عن التقارير الصحفية لوکالات الأنباء والصحف والمجلات العالمية . ودهشتي کبيرة للغاية لکثرة عدد التقارير والملخصات وأوراق العمل التي صدرت خلال هذه الفترة القصيرة . لهذه الاعتبارات ، سيتم الاقتصار على المصادر الحديثة الموثقة ، والتي تتوفر فيها قدر الامکان الاشتراطات الاکاديمية من حيث التحکيم ومتطلبات النشر العلمي . وفي هذا الجزء من التحليل ، سأقوم باستعراض العناوين الرئيسية لهذه الأعمال ، والاشارة فقط للقضايا الرئيسية التي عنيت بها .

          وبقراءة سريعة لعناوين الدراسات والتقارير المتاحة ، فإنه يمکن تصنيفها لمحاور رئيسية ، ينطوي کل منها على قضايا فرعية وذلک على النحو التالي  [1]:

أولا – حجم الجائحة ، ومدى انتشارها عالميا واقليميا :

-          التقارير اليومية لمنظمة الصحة العالمية عن کوفيد-19 في العالم

-           کوفيد -19 : من الوباء للجائحة

-           جائحة کورونا ( کوفيد -19 ) ، الوضع الراهن ، والمنظور المستقبلي " مراجعة سردية "

-           فيروس کورونا ، وجدلية الانتصار والاندحار

ثانيا – جائحة کورونا ، والمخاطر التي تنطوي عليها :

-           جائحة کورونا : خطر يهدد الانسانية

-           الايبولا ، وزيکا ، وکورونا ، ما القادم لعالمنا ؟

-           کوفيد – 19 : کيف يقلب العالم رأسا على عقب ؟

-          إدارة الأزمة العالمية للمخاطر الناجمة عن الأمراض : التحضر وصحة واحدة One Health

-          تداعيات کوفيد -19 على القارة السمراء

-          التداعيات العالمية لفيروس کورونا المستجد

ثالثا – التوافق مع جائحة کورونا أسريا ومجتمعيا ( الاستجابات العالمية والاقليمية والقومية ) :

-           الهدوء الذي يسبق العاصفة ، التوافق مع کورونا في الشرق الأوسط

-          الممرضات والمنظورات الثقافية ، الاستجابات لجائحة کورنا

-           نحن بحاجة لرعاية صحية عامة قوية لاحتواء جائحة کورونا العالمية

-           تکيف الأسرة مع الحجر الصحي المنزلي في زمن فيروس کورونا

-          استجابة السياسة ، ووسائل التواصل الاجتماعي ، والعلوم ، والصحافة ، من أجل صحة عامة مستدامة ، النظام وسط اندلاع کوفيد -19

-          الاستجابات الاستراتيجية للأزمة

-          استجابة اقليمية للتخفيف من تداعيات الوباء

-           دور الصندوق الاجتماعي في التعامل مع کورونا

رابعا – الأبعاد الاقتصادية لجائحة کورونا :

-           بحوث المهن ( الأنشطة ) والمجتمع في فترة أزمة کورونا

-           فيروس کورونا ، التکلفة الاقتصادية على المنطقة العربية

-           آثار جائحة کورونا ، کوفيد -19 ، على الاقتصادات العربية

-          فيروس کورونا وانهاء العلاقة الشغلية

-          الکورونا وأزمات الاقتصاد في أفريقيا جنوب الصحراء

-          الآثار الاجتماعية الاقتصادية لکوفيد-19

-          التأثير الاقتصادي لکوفيد-19 والفروق النوعية

خامسا - الأبعاد الاجتماعية لجائحة کورونا :

-           أزمة کورونا وعدم المساواة

-           جائحة الانفلونزا والتحول الديموجرافي

-           آثار جائحة کورونا – کوفيد-19 ، على المساواة بين الجنسين في المنطقة العربية

سادسا - الأبعاد السياسية لجائحة کورونا :

-           الصحة العقلية وکوفيد -19 ، هل الفيروس عنصري ؟

-           القومية العالمية في أوقات جائحة کورونا

-           هل يقضي الفيروس على العولمة ؟

سابعا – جائحة کورونا ومتطلبات جديدة للتعليم والتدريب :

-          الممرضات والمنظورات الثقافية ، الاستجابات لجائحة کورنا

-          التوجهات النظرية البينية المتعددة لمحو الأمية الصحية حول العالم ، أکثر أهمية عن فترة ما قبل کوفيد -19 

-           البحث والتمويل في زمن کوفيد -19 

ثامنا – جائحة کورونا ، هل هي شر مطلق ؟ :

وبنظرة متأملة لعناوين وموضوعات هذه الدراسات ، نجد أن القاسم المشترک فيها هو اهتمامها ببعض القضايا والموضوعات ، لعل أهمها حجم الجائحة ، والأضرار الناجمة عنها والخسائر البشرية والمادية التي تسببت فيها ، والأبعاد المختلفة التي تنطوي عليها . ومن المنطقي أن يکون حجم لجائحة المتمثل في عدد المصابين وعدد الوفيات ، وعدد الدول المتضررة ، وحجم الأضرار حسب کل دولة هو الموضوع الذي يحتل المرتبة الأولى في الأهمية . فجائحة کورونا تحولت لقضية رأي عام في کل أنحاء العالم ، وتوفير بيانات لحظية من هذا النوع أصبح مطلبا انسانيا ملحا في کل مکان من المعمورة .

وقد أصدرت منظمة الصحة العالمية في فترة قصيرة للغاية أکثر من 250 تقريرا ·بمعدل تقرير کل يوم ، لمحاولة تقدير حجم الجائحة والأخطار الناجمة عنها ولرصد التغيرات اللحظيةالمتتالية .  فعدد المصابين والوفيات کان محدودا للغاية مع بداية ظهور الجائحة ، حتى أنه کان يعد على أصابع اليد الواحدة ، وفي عدد قليل جدا من الدول [2]. فعلى سبيل المثال ، سجلت الصين – التي هي بؤرة الوباء - في نهاية يناير 2020 (9720 حالة اصابة ) ، وعدد قليل لا يذکر في اليابان (14 حالة ) ، وکوريا (11 حالة ) ولکن في وقت قصير جدا ، بدأت الأعداد تتصاعد ، وحدث تغير نوعي في طبيعة النمو واتجاهات الزيادة ، حيث بدأت تتم وفقا لمتوالية هندسية إذ تضاعفت الأعداد في وقت قصير للغاية ، وبدأت تحدث بالمئات والآلاف بدلا من العشرات ، وتصاعدت في نهاية الأمر للملايين . واتسعت دائرة الاصابات من نطاق اقليمي محدود لتجتاح مختلف قارات العالم وفي کل الدول يلا استثناء . ولتوضيح ، فقد حقق عدد المصابين زيادة متواصلة وبمعدل متصاعد من 9800 حالة في يناير ، الى 85 ألف حالة في فبراير ، ثم 750 ألف حالة في مارس ، 3 مليون في ابريل ، 5.9 مليون في مايو ، 12 مليون في يونيو ، ويقترب في يوليو من حاجز16 مليون مصابا في العالم . لکن هذا الرقم حقق قفزة سريقة وقوية خلال شهر واحد ،إذ صعد إلى 25 مليونا مع نهاية شهر أغسطس ، وقد قفز الرقم إلى مستويات قياسية في مطلع 2021 ، حيث بلغ 100 مليونا (والرقم مرشح للزيادة)  وينطبق نفس الأمر على عدد الوفيات الذي ارتفع من 86 حالة فقط في فبراير الى ما يزيد عن 600 الف حالة وفاة في منصف يوليو، ثم بلغ 839 ألفا في نهاية أغسطس 2020 ، ويقدر في يناير 2021 بنحو 2 مليون حالة وفاة [3].( مع ملاحظة أن هذه الأرقام متغيرة)

تجدر الإشارة کذلک الى تغير نوعي آخر ، وهو تغير خريطة المصابين والوفيات ، إذ انحصرت حالات المصابين والوفيات في بداية الأمر في الصين وعدد محدود في مجموعة دول جنوب شرق آسيا . وفي المرحلة التالية انتقلت الجائحة لمنطقة أوربا وأمريکا . وفي المرحلة الثالثة ، اتسعت دائرة الاصابات والوفيات لتجتاز کل مناطق المعمورة تقريبا ومختلف الدول ، وان وجدت تباينات ، حيث بدأت تحتل الولايات المتحدة الأمريکية  المرتبة الأولى ،التي بيبلغ فيها عدد المصابين (22,5 مليون مصابا ) ، يلي ذلک في المرتبة التالية الهند (10,4 مليون مصابا)، ثم البرازيل(8 مليون مصابا )، فروسيا، وتأتي بريطانيا في المرتبة الخامسة عالميا . وعلى المستوى العربي ، تأتي العراق في المرتبة الأولى (601,4 الف مصابا ) ، يلي ذلک المغرب ، وتأتي مصر في المرتبة العاشرة عربيا ، وترتيبها رقم 63 عالميا [4].

أما عن الأخطار ، فقد قدمت " جائحة کورونا " أدلة کافية لصحة افتراضات " أولريتش بيک " عن مجتمع المخاطر risk [5]society  . فنحن نعيش الآن بالفعل في مجتمع المخاطر ، وهي مخاطر – کما ذکر " بيک " جديدة ، يصعب لمسها وشمها وتذوقها ، أو حتى التوقع بتوقيت حدوثها أو مکانها . لذلک ، من الطبيعي أن تهتم العديد من التحليلات بالمخاطر التي تنطوي عليها جائحة کورونا [6]، التي تؤثر في الجميع بطريقة يصعب التنبؤ بها ، وبسرعة لا يمکن تخيلها ، أو الاستعداد لها ، فهي کالنار في الهشيم وربما أسرع. والتحضر من العوامل التي تعمل على زيادة عوامل الخطر على الصحة ، لارتباطه بالازدحام والتلوث والقلق والضغوط المرتبطة بالفقر والبطالة [7]ومن المتوقع أن تتأثر التنمية والصحة العامة على مدى الخمس سنوات القادمة ، ولکن من الصعب التوقع بالأثر المستقبلي لهذه الجائحة المفزعة في القرن الواحد والعشرين. 

إن " جائحة کورونا " قد عملت على اعادة تحديد العوامل الرئيسية المحددة للصحة العامة – والتي تتمثل وفقا للخبرات الانسانية التي اکتسبها العالم من جائحة " زيکا " و " ابيولا " ومؤخرا " کورونا " – في ثلاثة محددات وهي حجم السکان ، والفقر ، والتلوث . وتتزايد مخاطر الجائحة من حقيقة الترابط الوثيق بين هذه العوامل مجتمعة . فالجوائح عموما ، وجائحة کورونا تحديدا تتفاقم بتأثير حجم السکان ، الذي تزداد خطورته في المناطق الأشد فقرا ، وتشتد خطورة هذين العاملين في حالة زيادة التلوث ، حيث تتضافر هذه العوامل مجتمعة – حجم السکان والفقر والتلوث – وتسهم معا في اتساع دوائر الجائحة وتفاقم المخاطر التي تنجم عنها .

لقد استلزمت حالة کهذه تعبئة مجتمعية عامة في کل دولة على حدة ، بل وتعبئة عالمية في کل أنحاء المعمورة ، وأصبحت هذه الأزمة هي الشغل الشاغل للعام بأسره . في هذه الفترة القصيرة للغاية ، ومنذ بداية تحول المرض لجائحة(مارس 2020 )،تأکد أن الدرس الأهم في التوافق المجتمعي مع الأزمة تتلخص ملامحه في التالي  [8]:

-          أنظمة صحية مناسبة ، ونظم صحة عامة قوية ، وإجراءات حازمة

-          مؤسسات حکومية محوکمة ،

-          وعي مجتمعي ، والتزام حقيقي

-          ثقافة صحية راقية تساعد الناس في اختيار الأخبار بعناية

-          وسائل اعلام على درجة عالية من التدريب والکفاءة تتصف بالموضوعية والحيادية ، وتحقق التوعية وتتجنب تدعيم المشاعر السلبية ، وتقدم برامج ممتعة ومفيدة

-          وسائل التواصل الاجتماعي ، ودور المجتمع ، والناس ، وذوي العلاقة في التعامل بانتقائية معها لاختيار کل ما يحقق المتعة ، والاستفادة ، والتثقيف ، وتقليل مشاعر القلق ، والتوتر والذعر والخطر ، ويحقق في نفس الوقت الوعي والتوعية والحصول على المعلومات اللحظية المفيدة . 

          إن الأبعاد الاقتصادية [9]هي الأهم في موضوع جائحة " کورونا " . فالاقتصاد أول من تأثر بالجائحة ، وأول من أثر فيها صعودا وهبوطا ، وأول من يؤثر في کيفية وسرعة التعافي منها . ولا يزال هناک جدل بشأن الدول الأکثر نجاحا في إدارة الأزمة ، وهل هي الدول الأقوى اقتصاديا ، أم العکس ، أم أن الجميع سواء في هذه الناحية ، على اعتبار أن الجائحة لا تستثني أحدا ، کما يرى البعض. ومع أن هذا الرأي فيه وجه للصحة ، إذ أن الأضرار بالفعل لحقت بالجميع ، أقوياء وضعفاء ، أغنياء وفقراء ، إلا أن هناک تفاوتات عديدة على أرض الواقع ، بل أن هناک من يرى العکس ويزعم أن الدول الفقيرة هي الأقل تأثرا  بالأزمة . فالعدد الأکبر من الأصابات يترکز في المناطق الأکثر ثراءً بالعالم

وبغض النظر عن هذا الجدل ، تبقى حقيقة واحدة ، وهي أن جائحة " کورونا " بقدر ما خلفت أعدادا کبيرة من المصابين تقدر بعشرات الملايين ، وعددا لا بأس به من الوفيات ، فإنها أثرت بشدة من الناحية الاقتصادية ، حتى أن آثارها الاقتصادية قد تعادل في خطورتها وعمقها تلک التي نتجت عن الأزمة المالية لعام 2008 . ولأهمية هذا الجانب ، ولعلاقته الوثيقة بموضوع الدراسة الراهنة ، فسنعود له لاحقا بالتفصيل عند مناقشة مشکلة الدراسة وأهدافها وتساولاتها .

          ولا يحتاج الأمر للتأکيد على أهمية الأبعاد الاجتماعية والسياسية لجائحة کورونا . فالجائحة من الناحية الاجتماعية هي في نظر بعض المحللين جائحة معلوماتية ، ولها علاقة بمحو الأمية الصحية عموما والأمية الصحية الرقمية ، التي أصبحت مطلبا ضروريا لتحليل البيانات وتقييمها وتوفيرها لذوي العلاقة من أطباء وتمريض ومحللي البيانات وأقسام الصحة ووسائل الاعلام . ومن المؤکد أن جائحة کورونا تؤثر في طبيعة وأهمية العلاقات والتفاعلات الانسانية .وأقل ما يقال أن الفيروس قد عمل على منع المصافحة تقريبا  [10]. وقد کشفت الأزمة کيف اننا کبشر متساويين ، فالفيروس لا يستثني أحدا ، وستلحق الجائحة بالجميع وتؤثر فيهم [11] . ولقد شهدت الأسرة تغيرات عميقة في فترة قصيرة للغاية . بجانب ذلک دور المجتمع ونظمه ومنظماته في التخفيف من تداعيات الجائحة ، وتأثيرها في الفجوة النوعية واللامساواة وکذلک الأبعاد الديموجرافية ، وذلک بالترکيز على الفئات العمرية والنوعية التي تأثرت وربما تضررت ، والتحولات الديموجرافية على المدى القصير والبعيد .

          أما عن الأبعاد السياسية للجائحة ،فجائحة " کورونا " کانت هي القاسم المشترک في المعرکة الانتخابية الأخيرة بالولايات المتحدة الأمريکية ، وربما تکون هي العامل الأهم الذي حسم هذه المعرکة .وهناک بعض الدراسات التي اهتمت بالعلاقة بين الجائحة والعنصرية ، وعلاقتها بدحض نظرية العولمة أو تأکيد صحتها [12]. لکن هناک من يربط بين هذه الأزمة والحرب الباردة بين الصين والولايات المتحدة ، وتفسير الجائحة في إطار نظرية المؤامرة ، بل وصفها وربما وصمها بأنها وباء صيني . وبغض النظر عن صحة أو عدم صحة هذه المزاعم ، إلا أن صدى هذه النظرية ظل مطروحا طوال هذه الأزمة على الساحة العالمية .  

          ولا يستطيع أحد أن يتشکک في الآثار السلبية للأزمات والکوارث ، کالأوبئة والجوائح ، وجائحة کورونا هي المثال الواضح ، ولکن کما تعمل الأزمات على خلق المشکلات ، فإنها أحيانا تصنع المعجزات وقد تحمل في طياتها تغيرات ايجابية عديدة ، وکما يقولون تتحول المحنة إلى منحة. ومن الأمثلة الايجابية التي تحضرنا لجائحة کورونا التغيرات التالية :

-          عملت الأزمة على تفتيح عقولنا وأجسادنا لامکانات جديدة

-          کشفت الأزمة عن قدراتنا المجتمعية العظيمة للاستجابة للمشکلات الاجتماعية واسعة النطاق

-          فتحت الجائحة المجال لأنشطة اقتصادية ازداد الطلب عليها ، کالمستلزمات الطبية والمطهرات ووسائل الوقاية ( صناعة الکمامات الطبية وتشغيل مصانع الغزل المصرية ) ، والمنصات الالکترونية ،

-          أعادت جائحة کورونا الأدوار التقليدية للأسرة ، فالحظر والاغلاق والحجر المنزلي ، کلها توافقات جديدة بدلت حال الأسرة من کونها مجرد مکان للاٌقامة ، إلى تجمع أفراد الأسرة لمعظم الوقت ، وهو ما انعکس على تفعيل أدوار الأسرة ووظائفها وتفاعلاتها .

-          يرتبط بالنقطة السابقة ، تغيير خريطة التعليم والتدريب ، وتزايد الطلب على مهارات جديدة في الحياة وما يعرف بوظائف المستقبل ، والتعليم والتدريب عن بعد ، ومهارات التواصل الالکتروني عبر الانترنت ، تلک المستجدات التي طالت فئات غير متعلمة لم يکن من المتخيل أن تصل لهذه المستويات من التدريب والتوافق بهذه السرعة وهذه الدقة . ولعل المثال الأوضح هو العمالة غير المنتظمة ، ومعظمهم من غير المتعلمين أو من أشباه المتعلمين ، الذين استوعبوا يسرعة فائقة الاجراءات الاحترازية وتمکنوا من التوافق مع هذه التغيرات والمستجدات .

-           وفرت جائحة کورونا المناخ المناسب لوقف الدروس الخصوصية والمراکز الخاصة ، فقد کان الوقت مناسبا للمرة الأولى لتجاوب المجتمع مع هذا المطلب ، خاصة وأنه تزامن مع سياسة الاغلاق التي طالت العديد من القطاعات .

إشکالية الدراسة والمنهجية :

          من الواضح ، کما سبقت الإشارة ، أن موضوع جائحة " کورونا " أوسع بکثير  من الجانب الطبي أو الصحي ، وهو بالطبع الجانب الأهم . فقد أثبتت التجربة الانسانية ، خلال مسيرة جائحة کورونا التي لم يمر عليها سوى شهور قليلة ، أنه حتى الجانب الطبي والصحي يرتبط ارتباطا وثيقا بکل تفاصيل الحياة من سکان، واقتصاد ، وثقافة ، ووعي ، ونظام اجتماعي وسياسي .

          لکن التحديات البحثية في موضوع " کورونا " لا تقتصر على اتساع مجالات البحث فقط ، بل في عدم توفر بيانات موثوق في صحتها ، فالبيانات الموثقة المتاحة قليلة ، علاوة على أنها متغيرة بمرور الوقت ، وستظل ، طالما أن الغموض ما يزال يحيط بالموضوع . والغموض الذي يکتنف الجائحة هو الذي يعطي للموضوع أهميته البحثية ، فهو مثير للاهتمام لأنه يثير تساولات أکثر مما يقدم إجابات .

          إن موضوع جائحة کورونا بأبعاده المختلفة ، والتي سبق وأشرنا إليها في عرضنا للعناوين الرئيسية ، يتصف کله بالجدة . فالموضوع برمته جديد على التجربة الانسانية ، فالفيروس – کما هو واضح من اسمه – يعرف بکوفيد-19 أو فيروس کورونا المستجد . ومع ذلک فإن هذه الدراسة تتصف بزاوية متميزة وهي ترکيزها على طبيعة العلاقة بين جائحة کورونا ، وجائحة البطالة ،اذا جاز التعبير . وتتحدد مشکلة الدراسة في اهتمامها بزاوية جديدة يحيط بها الغموض وسؤال بحثي رئيسي وهو :

هل جائحة کورونا ترتبط بجائحة البطالة ؟ وما طبيعة الارتباط بين هذين المتغيرين زمانا ومکانا ؟

-           ما أکثر الفئات التي تعرضت للبطالة من جراء جائحة کورونا ؟

-           ما القطاعات التي تأثرت بالحائحة وترتبت عليها تغيرات في معدلات البطالة واتجاهاتها صعودا وهبوطا ؟

-           ما الأنشطة التي شهدت توسعا ، وتلک التي تقلصت ، وما انعکاس ذلک على فرص العمل ومعدلات البطالة ؟

ما أنماط البطالة التي نتجت عن جائحة کورونا ؟ هل البطالة المطلقة ؟ أم الجزئية ؟ أم الفنية أو التکنولوجية ؟ أم البطالة الاختيارية ؟ أم المقنعة ؟

المنهجية :

يتصدى هذا التحليل لقضية بحثية تنطوي على صعوبة منهجية حقيقية ، وتتمثل في أن المعلومات والبيانات المتاحة ( عن جائحة کورونا ) تتغير باستمرار . ولکن ذلک يدفعنا للتحمس لبحث هذا الموضوع المثير الذي ينطوي على الکثير من جوانب الغموض ، ويطرح تساولات أکثر مما يقدم اجابات . وحالنا حال معظم من يتصدى لمثل هذه الموضوعات ، سنجتهد في دراسة الموضوع وتحليله من بعض الزوايا اعتمادا على ما يتاح لنا من بياانات من خلال ما نقرأ ، وما نلاحظ ، وما نناقش .

للاعتبارات السابقة ، استعانت الدراسة بمنهج التحليل الثانوي secondary analysis method  ، وذلک بالاعتماد على عدد من الدراسات والتقارير روعي في اختيارها الشروط التالية :

1-    اتصالها الوثيق والمباشر بموضوع البحث ، وبمتغيري الدراسة ، الجائحة من ناحية ، والبطالة من ناحية ثانية .

2-    حداثة التقارير والتحليلات والبيانات ، وتحديدا الفترة التي تزامنت مع ظهور الوباء وتطوره لجائحة ، وصولا لما بعد الجائحة . لذلک نجد أن الفترة الزمنية تنحصر في الفترة الزمنية اللاحقة لشهر يناير 2020 (وحتى استکمال التحليل)

3-    بجانب ما سبق ، الأفضلية للتقارير والتحليلات التي تتضمن بيانات ومؤشرات عالمية ، واقليمية ، وقومية عن مصر تحديدا

4-   عامل الاتاحة ، أي الاعتماد على التقارير والبيانات المتاحة ، وتحديدا على البيانات الرقمية لندرة التقارير والدراسات الورقية ، بل عدم توفرها .

وتنفرد الدراسة الراهنة بميزة مهمة وتتمثل في اجتهادها بعمل استطلاع لرأي عينة من أرباب الأسر بمحافظة المنيا ، روعي فيه تمثيل مختلف فئات المجتمع حسب الخلفية الريفية – الحضرية ، والنوع ، والتعليم ، والمهنة ، والسن والمستوى الاقتصادي ، وقد تم تنفيذ هذا الاستطلاع بمعاونة طلاب الفرقة الثالثة بقسم الاجتماع ، الذين تم طرح موضوع البحث " العلاقة بين جائحة کورونا والبطالة " عليهم في المحاضرات المخصصة لمقرر علم اجتماع العمل ، وتم تزويدهم بدليل لاستطلاع الرأي تضمن بعض البنود التي تم وفقا لها الحصول على شواهد واقعية ومجتمعية عن قضية البحث . وقد أمکن من خلال الاستطلاع تمثيل الريف والحضر ومختلف الفئات ، وذلک لأن الطلاب والطالبات ينتمون وبالتالي يمثلون مجتمع المنيا من مختلف القطاعات والفئات .( دليل استطلاع الرأي في لملحق )

وفي تحليلنا للدراسات والتقارير ، سيتم الترکيز على المحاور والقضايا التالية :

-          التداعيات الاقتصادية لجائحة کورونا

-          القطاعات والأنشطة الاقتصادية الأکثر تأثرا (تضررا)

-          الانعکاسات المباشرة وغير المباشرة لجائحة کورونا على البطالة

-          الحلاصة - جائحة کورونا وجائحة البطالة ، الحالة المصرية.

أولا - التداعيات الاقتصادية لجائحة کورونا :

          جائحة کورونا هي الخطر الأکبر في الذاکرة الحية ، بالنسبة للصحة ، والرفاهية ، والرعاية الاجتماعية ، والاقتصاد العالمي  [13]. وتتوقع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية [14]، أن يؤدي تفشي فيروس کورونا إلى خفض النمو الاقتصادي هذا العام إلى أقل مستوى له منذ عام 2009 . کما تتوقع المنظمة انخفاضا حادا للنمو في البلدان المرتبطة بعمق مع الصين وخاصة کوريا الجنوبية واستراليا واليابان .

وتقدر خسائر الاقتصاد العالمي بنحو 2.7 تريليون دولار ·، وهو ما يعادل الناتج المحلي الاجمالي السنوي للمملکة المتحدة .وتشير التوقعات إلى أن الکثير من النظم الاقتصادية ستصاب بالشلل ، ومن الصعب أن تنتعش مرة أخرى بالسرعة المطلوبة ، وخاصة في الجنوب .

إن الصدمة السريعة والشديدة لجائحة فيروس کورونا ، وتدابير الاغلاق التي اتخذت لاحتوائها ، قد هوت بالاقتصاد العالمي في غمرة انکماش حاد . وطبقا لتوقعات البنک الدولي [15]، فإن الاقتصاد العالمي سيشهد انکماشا بنسبة 5.2% هذا العام . وفي إصدار يونيو 2020 ، من تقريره ، يصف البنک أن هذا سيمثل أشد کساد منذ الحرب العالمية الثانية ، إذ ستشهد أکبر مجموعة من اقتصادات العالم منذ عام 1870 تراجعات في متوسط نصيب الفرد من الناتج .

          ومن المتوقع [16] أن ينکمش النشاط الاقتصادي في الاقتصادات المتقدمة بنسبة 7% في عام 2020 من جراء الاضطرابات الشديدة التي أصابت جانبي العرض والطلب المحليين ، والتجارة والتمويل . ومن المتوقع أن تعاني الاقتصاديات الأوربية الکبرى[17] من الاضطرابات ، حيث تتبنى البلدان تدابير تقيدية تحد من نشاط التصنيع ، وتتوقع الأمم المتحدة أن تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر يمکن أن تنخفض من 5% - 15% ، لتصل إلى أدنى مستوياتها منذ الأزمة المالية العالمية في 2008 .

وتشير التنبؤات إلى أن اقتصادات الأسواق الصاعدة والبلدان النامية[18] ستشهد انکماشا بنسبة 2.5% هذا العام ، وهو أول انکماش لها منذ 60 عاما على الأقل . ومن المتوقع أن ينخفض متوسط نصيب الفرد من الدخل بنسبة 3.6% ، متسببا في سقوط ملايين من الناس في برائن الفقر المدقع هذا العام .   

          ووفقا لتقرير صندوق النقد الدولي [19] ، من المتوقع أن يبلغ النمو العالمي -4.9% في عام 2020 ، بانخفاض قدره 1.9 نقطة مئؤية عما کان متوقعا في عدد ابريل 2020 . وقد أشارت البيانات الاقتصادية التي أتيحت في هذا العدد ، إلى هبوط غير مسبوق في النشاط العالمي بسبب جائحة کوفيد-19 ، وإلى مرور عدة اقتصادات بهبوط أعمق عما کان متوقعا من قبل . وعلى مستوى العالم ، کانت الاغلاقات العامة في أشد مراحلها وأوسعها نطاقا من حوالي منتصف مارس الى منتصف مايو ، ولا يزال النشاط منخفضا ، علاوة على هبوط ملحوظ في الاستهلاک والخدمات .

          وتشير التوقعات الأخيرة الصادرة من البنک الدولي ومنظمة التعاون والتنمية [20] في الميدان الاقتصادي إلى انکماش يتراوح بين 5% الى 8% ، في أکبر رکود شهده العالم منذ الحرب العالمية الثانية . وحسب سيناريوهات منظمة التجارة العالمية ، فإن حجم التجارة العالمية سينخفض بنسبة 13% في السيناريو الأفضل ، 23% في السيناريو الأسوأ

          وذکر تقرير للبنک الدولي[21] ، الذي صدر في مايو 2020 ، أن تحويلات العاملين بالخارج حول العالم ستنخفض بمقدار 142 مليار دولار أمريکي في عام 2020 ، وهو أکبر هبوط في التاريخ الحديث بسبب أزمة فيروس کورونا . وبحسب التقرير ، فإن التحويلات في منطقة الشرق الأوسط ستتراجع بنسبة 20% خلال عام 2020 ، مقارنة بنحو 2.6% في عام 2019 . ويرجع التراجع إلى تراجع الاقتصاد العالمي جراء جائحة کورونا ، بجانب تأثير انخفاض أسعار النفط في دول الخليج .

وقد أخذت مستويات الدين العام في الارتفاع ارتفاعا حادا [22] ، وقد قدر صندوق النقد الدولي في ابريل ، أن يرتفع متوسط الدين العام الى الناتج المحلي الاجمالي من 69.4% إلى 85.3% خلال العام . وسيبلغ هذا الارتفاع مستويات أعلى بکثير في العديد من البلدان . وخلاصة موضوع الأزمة الانسانية هي أنه ، وفقا للبنک الدولي ، سيجد ما بين 71 ، 100 مليون شخصا أنفسهم عالقين في برائن الفقر المدقع .

وقد التزمت الدول الأعضاء في مجموعة العشرين بضخ أکثر من 5 تريليون دولار للنظام الاقتصادي العالمي . وأعلن البنک الدولي تخصيص ما يزيد عن 12 مليار دولار کدعم مباشر للدول للتعافي من جائحة کورونا . کما أعلن صندوق النقد الدولي إجراءات توافقية ، تسمح للدول للاستثمار والتوافق مع الجائحة . أما الاتحاد الأوربي ، فقد أقر آلية مختلفة أطلق عليها " سندات کورونا " للتوافق مع الجائحة [23].

          وبحسب التقديرات الأولية [24] لتداعيات کوفيد-19 ، من المتوقع أن تسجل المنطقة العربية في عام 2020 خسائر لا تقل عن 42 مليار دولار . ومع اتساع رقعة هذا الوباء العالمي في دول الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريکية وغيرها من الاقتصادات الکبرى ، ونتيجة للآثار المضاعفة لانخفاض أسعر النفط ، يخشى أن تزداد خسائر الدخل في المنطقة أکثر فأکثر . ومن التداعيات الأخرى على المنطقة الانخفاض الشديد في أسعار النفط [25]، مما أدى إلى خسارة المنطقة العربية ايرادات نفطية قيمتها ، 11 مليار دولار تقريبا ، وذلک في الفترة من يناير إلى منتصف مارس 2020 ، وإذا بقيت أسعار النفط على حالها ، فستخسر المنطقة 550 مليون دولار تقريبا کل يوم .

          وفي أفريقيا [26] ، من المتوقع انخفاض معدل النمو الاقتصادي من 3.2% إلى 1.8% عام 2020 ، أي أن مقدار الفقد يعادل 37 مليار دولار أمريکي . وقد أوضحت النتائج أن 51% من الصادرات الأفريقية کانت تتجه إلى بلدان تأثرت تأثرا بالغا بأزمة کوفيد-19 ، وفي مقدمتها بلدان الاتحاد الأوربي .

ثانيا -القطاعات والأنشطة الاقتصادية الأکثر تأثرا (تضررا)

          قد تختلف الآراء بشأن تداعيات جائحة کورونا ، لکن هناک اتفاق شبه تام على أن قطاع النفط هو أکثر القطاعات تضررا . فهناک توقعات بانخفاض الطلب على النفط [27]في عام 2020 ، ليسجل بذلک أول انخفاض له منذ أکثر من عقد من الزمان بسبب الانکماش في طلب الصين والانخفاض الکبير في قطاعي السفر والتجارة . ولقد انقلبت سوق النفط العالمية منذ بداية عام [28]2020 بسبب حرب الأسعار بين روسيا الاتحادية والمملکة العربية السعودية ، والانکماش الاقتصادي العالمي الحاد الناجم عن جائحة کوفيد-19. فمنذ شهر يناير 2020 ، انخفضت أسعار النفط من 70 دولار أمريکي إلى ما دون 30 دولار للبرميل ، وتحول سعر النفط المنتج في الولايات المتحدة الأمريکية ،  خام غرب تکساس الأمريکي ، إلى المنطقة السلبية للمرة الأولى في التاريخ ، بسبب قلق التجار من وفرة النفط غير القابل للبيع ، على نحو جعل تخزين النفط سلبا للغاية لدرجة أن المنتجين يدفعون للمشترين للحصول على شحنات النفط . وقد أدى الانخفاض الکبير في أسعار النفط إلى انخفاض في عائدات النفط بأکثر من 50% خلال الربع الأول لعام 2020 .

          وفي أفريقيا [29] ، يعد قطاع النفط من بين القطاعات التي تأثرت بشدة من أزمة کوفيد-19 ، ويمثل 7.4% من الناتج المحلي الاجمالي لأفريقيا . وتعتبر نيجريا أول المتأثرين باعتبارها أکبر مصدري الوقود في أفريقيا .

وأکثر الأنشطة التي تأثرت على المدى القصير هي على التوالي [30]، خطوط الطيران ، والفتادق والسياحة ، وأماکن الضيافة . وستکون السياحة والصناعات المرتبطة[31] بالسفر من بين الصناعات الأشد تضررا ، حيث تحذر الرابطة الدولية للنقل الجوي من أن فيروس کورونا المستجد قد تکلف شرکات النقل الجوي ما بين 63-113 مليار دولار أمريکي انخفاضا في الايرادات خلال العام 2020 ، فضلا عن تراجع أسهم الشرکات الفندقية الکبرى .وقد قدرت منظمة السياحة العالمية انخفاض عدد السائحين بالعالم بنسبة تتراوح بين 1% و 3% ، خلال العام الحالي ، مقارنة بتقدير نمو يتراوح بين 3-4% في بداية يناير من نفس العام . ويؤدي هذا الانخفاض إلى خسارة تتراوح بين 30-50 مليار دولار أمريکي ، وسيکون التأثير الأکبر على الشرکات الصغيرة والمتوسطة التي قد تتعرض للإفلاس .

ووقثا لتقديرات مجلس الطيران الدولي[32] ، انخفض عدد المسافرين حول العالم بأکثر من 2 مليار مسافرا خلال الربع الثاني من العام الحالي . ومن المتوقع أن يصل هذا الانخفاض إلى أکثر من 4.6 مليار مسافرا مع انتهاء عام 2020 ، وانخفاض إجمالي إيرادات المطارات بنحو 39.2 مليار دولار خلال نفس الفترة ، ومن المتوقع انخفاضها إلى أکثر من 97 مليار دولار مع نهاية العام .

ومن الأنشطة التي تأثرت بالجائحة ، کل ما له علاقة بقطاع الصحة ، باعتباره القطاع الذي هو في المقدمة .ومع إعادة فتح الاقتصادات من جديد زادت حرية الحرکة في بعض المجالات ، لکنها ظلت محدودة بوجه عام مقارنة بمستويات ما قبل الفيروس . ولا يزال النشاط منخفضا في تجارة التجزئة ، والترفيه ، ومحطات العبور ، وأماکن العمل في معظم البلدان [33].

          کذلک أدى انتشار فيروس کورونا إلى تعطيل عمليات التصنيع في جميع أنحاء العالم[34] ، حيث قامت الصين بإغلاق مصانعها ، وعاد الکثير من العمال إلى بلادهم ، مما أثر بالسلب على سلاسل الامداد العامية . فقد توقفت شرکات عالمية عن التصنيع مثل شرکة هيونداي نتيجة عدم تمکنها من الحصول على قطع الغيار الصينية . وتضطر الألاف من الشرکات في الولايات المتحدة وأوربا بحلول منتصف مارس إلى إغلاق منشآت التصنيع ، وأکثر الشرکات التي  ستعاني هي التي تعتمد على الصين في الحصول على المواد الخام .

          وقد تأثرت المنشآت ، لاسيما المتوسطة ، والصغيرة ، ومتناهية الصغر ، التي تمتلک القليل من احتياطات الوقاية من وقف النشاط . ويوجد بهذه القطاعات[35] ما لا يقل عن 436 مليون منشأة معرضة لأعلى مخاطر الاضطراب الجسيم .أما القطاعات الأقل تأثر وهشاشة[36]، فهي الأقل ترابطا في النظام الاقتصادي مثل قطاع الزراعة ، وإن کانت ستظل تواجه تحديات مع تراجع الطلب العالمي.

 

ثالثا - الانعکاسات المباشرة وغير المباشرة لجائحة کورونا على البطالة

          يأتي التراجع الحاد في النشاط الاقتصادي – من جراء جائحة کوفيد-19 – مصحوبا بضربة کارثية لسوق العمل العالمية [37]. وطبقا لما أعلنته منظمة العمل الدولية [38](ILO) کان انخفاض عدد ساعات العمل على مستوى العالم في الربع الأول من عام 2020 ، مقارنة بالربع الرابع من عام 2019 ، معادلا لخسارة 130 مليون وظيفة بدوام کامل . ومن المرجح أن يکون الانخفاض في الربع الثاني من عام 2020 معادلا لأکثر من 300 مليون وظيفة بدوام کامل .وکانت الضربة التي تلقتها سوق العمل بالغة الحدة بالنسبة للعمال محدودي المهارات الذين لا يملکون خيار العمل من المنزل . وقد تحملت النساء في الفئات الأقل دخلا جانبا أکبر من تأثير الجائحة في بعض البلدان .

          ومن المتوقع أن تخسر المنطقة العربية[39] ما لا يقل عن 1.7 مليون وظيفة في عام 2020 ، في ظل التوقعات أن يرتفع معدل البطالة بمقدار 1.2 نقطة مئوية . وبخلاف الآثار التي ترتبت على الأزمة المالية العالمية في عام 2008 ، يؤثر فيروس کورونا على فرص العمل في جميع القطاعات ، ولاسيما قطاع الخدمات ، الذي انخفض النشاط به بمعدل النصف بسبب ممارسة التباعد الاجتماعي . ونظرا لأن هذا القطاع هو المصدر الرئيسي لفرص العمل في المنطقة العربية ، فأية تأثيرات وخيمة تطاله ستترجم إلى خسائر فادحة في الوظائف

ويؤکد تقرير لصندوق النقد الدولي [40]أن العاملين بالقطاع غير الرسمي ، والذين يلغ عددهم 2 مليار عاملا على مستوى العالم ، هم الأکثر تضررا ، وتشير التقديرات أن 80% منهم (1.6 مليار) قد تضرروا بشدة من الجائحة . وينطبق ذلک تحديدا على الدول النامية [41].  فالعاملون بهذا القطاع هم الأکثر تضررا باعتبارهم من بين المجموعات المهمشة التي تفتقر للموارد والبنية المؤسسية الضرورية للتغلب على الأزمة . ويواجه العديد من العاملين بهذا القطاع تهديدا وشيکا لسبل عيشهم ، نظرا لأن متوسط الدخل في الاقتصاد غير المنظم قد تقلص [42]بزهاء 60% في الشهر الأول من تفشي الجائحة ، وقد أفضى ذلک لزيادة هائلة في الفقر .

          وفي الولايات المتحدة ، ارتفعت معدلات البطالة [43] ، ووصلت طلبات التأمين ضد البطالة لمستويات غير مسبوقة في مارس 2020 .وقد کشفت أزمة کورونا عن التباينات في العمل [44]job inequalities ، لاأن لها آثار مختلفة ، ويتوقف ذلک على نوع الأعمال التي يقومون بها . وبالنسبة للعاملين في المهن والأنشطة الحرجة [45]کالعاملون في مجال الرعاية الصحية والمتعاملين مع حالات الطواريء ، فإن انتشار الفيروس قد أدى لزيادة أعباء العمل وعدد الساعات ، فضلا عن التغير في ظروف العمل وترتيباته. أما بالنسبة للعاملين في المجالات الأخرى ، فقد أدى تطبيق التباعد الاجتماعي والحجر وغيرها من التدابير والقيود إلى نشوء عواقب مختلفة بما في ذلک تخفيض ساعات العمل ، والعمل عن بعد ، ومنح اجازات غير محددة المدة ، واجازات طويلة ، وتسريح الموظفين ، واغلاق الأعمال التجارية . 

وفي رأينا توجد أربع فئات واسعة من الأعمال [46]في ارتباطها بالاستجابات التنظيمية لفيروس کورونا :

أولا – أعمال الصفوة elite jobs :

          وهي التي تعتمد على أعمال المعرفة knowledge jobs ، ويمکن القيام بها عن بعد ، لهذا ظلت هذه الأعمال آمنة .فالأفراد في هذه الأعمال يظلون في المنزل دون أن يتأثر دخلهم ، وإذا تأثر فسيکون التأثير محدودا . وعلاوة على ذلک ، فسيکون هؤلاء الأفراد في وضع آمن من الاصابة بالفيروس، أو التسبب في انتشاره ، فمبقدورهم التسوق عبر الانترنت لتوفير احتياجاتهم

ثانيا – الأعمال في خطوط المواجهة frontline jobs :

          وتعتمد على المعاملات الفيزيقية والجسدية ، وتعاني من خسارة العمل جزئيا أوکليا ، وبتزايد المخاطر من الاصابة بالمرض ، وما يترتب على ذلک من فقد العمل . وداخل هذه الفئة ، هناک أعمال عالية الخطورة کالعاملون في النقل ، والسائقون وعمال الشحن وحمل الحقائب في المطارات والنقل العام ، ومحال البقالة وبيع الخضروات والفاکهة ، والصيدليات ، وذلک لأنهم يعملون بقليل من الحماية أو بلا حماية .

ثالثا – المؤقتون وعمال اليومية وعمال التراحيل :

          ويمثلون الفئات غير المحمية أو غير المحصنة ، کالعاملون بعقد في مجال النظافة والصرف الصحي ، ويکونون أکثر عرضة للاصابة بالفيروس . فبعض عمال الصرف الصحي في الهند ليس أمامهم اختيار آخر بسبب الفقر أو الاکراه ( لأنها مهنة طائفية ). کذلک العمالة عير المستقرة کعمال اليومية وعمال التراحيل بسبب تراجع الطلب على خدماتهم .

رابعا – مقدمي الخدمات :

          وهم أقل تأثر نسبيا بأزمة کورونا ، فالحظر ومنع تقديم الخدمات في المطاعم وکل أصناف البيع والشراء ، جعل المستهلکين يتحو